نحوا من ستة عقود ونصف.. أمضاها طلال سلمان في محراب الصحافة العربية؛ مدافعا عن كل قيمة نبيلة؛ متبنيا قضايا وطنه وأمّته.. منذ بدأ مسيرة العمل الصحفي، في بيروت عام 1956، مصححا ومدققا لغويا في صحيفة الشرق، ومحررا لبريد القراء في مجلة الحوادث مع سليم اللوزي في العام التالي.. وإلى أن وافته المنية أمس في أحد مشافي بيروت، عن عمر ناهز الخامسة والثمانين.
رحيل آخر الكبار في الصحافة العربية.. هكذا نعاه الإعلام اللبناني.. وللحقيقة فإن طلال سلمان كان كبيرا منذ البداية؛ فلم تعرف مسيرته المهنية؛ المواءمات ولا التنازلات، ولم يساوم على مبدأ، ولم يرهب قلمُه النبيل؛ إجرام أعدائه ومحاولاتهم المتعددة لإسكاته.
منذ أن أصدر الراحل الكريم جريدة السفير في مطلع ربيع 1974، حاملة الشعار القومي البديع “جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان” وطلال لم يسلم من كيد المتربصين؛ إذ فوجئ في اليوم الثاني لصدور الجريدة برفع دعوى قضائية ضده من قِبَل جمعية أصحاب المصارف في لبنان.. تلك الجمعية التي واصلت كفاحها القضائي غير المحمود ضد السفير، ليصل عدد الدعاوى القضائية إلى سبعة عشر دعوى، خلال العام الأول فقط من صدور الصحيفة.
خلال الحرب الأهلية اللبنانية، التي بدأت ربيع 1975، واستمرت لنحوٍ من عِقد ونصف – انتهجت السفير نهجا معتدلا؛ فلم تشارك في ذلك السجال الطائفي المستفحل؛ فكانت بحق “صوت من لا صوت لهم” لذلك كانت هدفا لقادة الصراع والمستفيدين من تأججه؛ فنسفت مطابع السفير في الأول من نوفمبر 1980، ونجا طلال من الموت بمعجزة؛ لكن تلك الجريمة لم تفت في عضد الرجل، فواصلَ العمل في صحيفته دون وجل؛ إلا أن يد الإرهاب لم تهدأ، ودبرت لاغتياله مجددا في الرابع عشر من يوليو 1984، عندما استُهْدِفَ منزله في منطقة الحمرا ببيروت بقذائف موجهة، وتفجير سيارة مفخخة، توقفت أمام المنزل.. لكن عناية الله أنقذته، فلم يُصب سوى بعدة جروح متفرقة في أنحاء جسده، وكسرٍ في الفك السفلي.
“بيروت تحترق ولا ترفع الرايات البيضاء” هكذا كتب عشية الاجتياح الصهيوني في 1982، مؤسسا من اللحظة الأولى للوعي النضالي الذي يجب على أحرار لبنان التمسك به والعمل من خلاله.. لتتحول كلمات طلال إلى رصاص يُهدى إلى صدور الغاصبين، والمتعاونين معهم.
ارتبط طلال بمصر ارتباطا كبيرا منذ وعى الأحداث الكبرى.. ثورة يوليو التي آمن بمبادئها، والقومية العربية التي شكلت أفقه الفكري.. وجمال عبد الناصر الذي ألهمه لغته المتدفقة كالسيل الهادر بمعاني النضال والوفاء للأمة العربية وقضاياها المصيرية من خلال خطبه وأحاديثه.. كما كان ألمه فادحا يوم التخلي والتسليم بالمعاهدة المشئومة.
مثّلت فلسطين ركنا أساسيا في قلب وعقل سلمان.. فكانت الصفحة الأخيرة من السفير تتزين دائما بكاريكاتير ناجي العلي، وفي الداخل تصدح قصائد درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم.
أواخر عام 2016، أغلقت السفير أبوابها، بعد ظروف مالية بالغة الصعوبة، وانصرف طلال سلمان إلى بيته محزونا؛ لكنه لم يسلم سيفه، وظل يكتب مقالاته لتنشر في عدد من الصحف العربية، وعلى موقعه الخاص.
نشر فقيد الصحافة العربية الكبير طلال سلمان، العديد من المؤلفات، أولها كتاب “مع فتح والفدائيين” عام 1969، وهو عبارة عن مجموعة من التحقيقات الصحافية سبق نشرها في مجلة الصياد.
ثم كتاب بعنوان “ثرثـرة فــوق بحيــرة ليمان” وهو مقـدمـة لكتاب ضمّ المحاضر الكاملة لمؤتمر الوفاق الوطني الذي عُقد عام 1984، في لوزان بسويسرا، وكتاب “إلى أميرة اسمها بيروت“، وهو مجموعة مقالات كتبها في حب معشوقته عاصمة الوجد والألم.
تجربة السفير.. تجربة فريدة في تاريخ الصحافة العربية.. وربما في الصحافة العالمية، فلقد كانت مسيرتها التي امتدت لأكثر من أربعة عقود؛ خطوات فوق الجمر، ومع ذلك كانت السفير على كل المستويات نموذجا للالتزام المهني، والصحافة الحرة، والعمل الصحفي الوطني الملتزم.
رحم الله طلال سلمان آخر الكبار في صحافتنا العربية المحتضرة.
