ثقافة

لوسيان سيباج وفلسفة ماركس (1) البنيوية بين المنهج والمذهب الفلسفي

”أصبحت لقضية “موت الذات” أولوية طاغية عند الماركسية البنيوية، بدعوى أن شعورنا بأننا صانعو أفعالنا، هو من بعض الوجوه شعور خاطئ أو شعور إيديولوجي، فما يحدث حقا هو أن البِنَى الاجتماعية الكامنة هي التي تحدد أفعالنا، وتعمل من خلالها، وأن أفعالنا تعمل على إعادة إنتاج البنى وإدامتها، أو أحيانا على تحويلها عن طريق الثورة. فالبشر – بناءً على هذا الرأي – يضحون دُمّى للبنية الاجتماعية، وهذه البنية بدورها تصبح نوعا من الآلة ذات الحركة  الدائمة. وما نريد قوله هو إن هذه النظرية تقف عاجزة تماما حينما تتناول الفعل الاجتماعي، وتصف الخيوط التي تحرك تلك الدمى، رغم فائدتها في تحليل البِنى الاجتماعية“. (إيان كريب: النظرية الاجتماعية – من بارسونز إلى هابرماس، ص: 200) .

 وهذا ما ينطبق على نظرة لوسيان سيباج للماركسية باعتبارها تتضمن إرهاصات بنيوية، وهي التي سوف نحاول مناقشتها في هذا المقال.

بلغت البنائية ذروتها باعتبارها اتجاه فكري وفلسفي في السنوات الأخيرة من ستينيات القرن الماضي. وكان من الشائع في أوساط المثقفين أن يُنظر إليها على أنها “مذهب فلسفي”، ومن سمات المذهب الفلسفي أنه يسعى بقدر إمكانه إلى الشمول، ويستهدف تقديم تفسير موحد لمجموعة كبيرة من المشكلات الفكرية، ويضم مجالات معرفية متعددة في إطار نظرة واحدة إلى العالم وإلى طبيعة الأشياء، وبالفعل وصل المد البنائي – في فترة الذروة هذه إلى ميادين شديدة التنوع، ففي مجال اللغويات كان جاكوبسون Jakobson وشومسكي Chomsly يقودان حركة نشطة اتخذ منها الكثيرون نموذجا ومثالا يُحتذى في ميادين أخرى. وفي ميدان التحليل النفسي كان لاكان Lacan يشد انتباه معاصريه بنظرته الجديدة إلى هذا العلم الذي كان يبدو – قبل نشر بحوثه – في حالة ركود نسبي.

وفي النقد الأدبي كان بارت R. Barthes يفتتح عهدا جديدا في تفسير النصوص على أساس بنائي. وفي الميدان الفلسفي كان مفكر ميال إلى المحافظة مثل فوكو Foucault يبهر جماهير المثقفين برؤيته الجديدة في كتابه المشهور الكلمات والأشياء  Les Mots et les Choses، على حين أن مفكرا ماركسيا أصيلا هو ألتوسير Althusser كان يعيد قراءة الأصول الكبرى للفلسفة الماركسية – وخاصةً كتاب “رأس المال” ذاته- من خلال تفسير بنائي مبتكر، وقبل هؤلاء جميعا كان  ليفي ستروس Lévi-Strauss يواصل جهوده الرائدة التي كان قد بدأها قبل هذا التاريخ بما يقرب من عشرين عاما، والتي استطاع بفضلها أن يجعل للبنائية مكانة بارزة على خريطة المذاهب الفلسفية في النصف الثاني من القرن العشرين، على الرغم من أن ميدان تخصصه كان علما اجتماعيا وليس فلسفيا هو الأنثروبولوجيا.

إن هذا الانتشار للبنائية جعل منها مذهبا فلسفيا شاملا، إلا أنها في حقيقة الأمر لم تصبح البنائية مذهبا فلسفيا إلا لأن المتخصصين قد تنبهوا في ذلك الوقت بالذات إلى الإمكانات الخصبة التي تكمن في فكرة “البناء”، إما الفكرة ذاتها، وإما مبدأ التفكير من خلال “بناءات”، فكان معروفا قبل ذلك بوقت طويل، وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول: إن البنائية هي – قبل كل شيء – “منهج” في التفكير، وبهذا المعنى كانت موجودة منذ عهد بعيد. ولكنها لم تصبح مذهبا فلسفيا إلا بعد أن تنبه بعض المفكرين – بطريقة واعية – إلى أهمية هذا المنهج وحددوا معالمه بوضوح بعد أن كان يطبق بطريقة ضمنية دون وعي بكافة أبعاده. وكانت نتيجة الحماسة التي تملكتهم حينما اكتشفوا هذه الطريقة في التفكير أن جعلوا منها مذهبا شاملا يقدم تفسيرا للمشكلات التي تواجه العقل في ميادين شديدة التباين، ومعنى ذلك أن البنائية – من حيث هي منهج – قديمة العهد. أما من حيث هي مذهب شامل، فهي ظاهرة حديثة في الفكر المعاصر.

ولكن على أي أساس نقول: إن البنائية كمنهج  كانت معروفة ومطبقة منذ وقت طويل؟ ذلك لأن مجرد تطبيق نموذج رياضي على موضوع علمي معين، هو في ذاته نوع من البنائية، فإذا أدركنا أن العلم الحديث منذ القرن السابع عشر لم يتمكن من تحقيق إنجازاته الضخمة إلا بفضل تطبيق النموذج الرياضي على الظواهر الطبيعية، كان في استطاعتنا أن نحكم بأن هذا العلم كان منذ بدايته “بنائيا”، لأنه استهدف الاهتداء إلى البناء الكامن وراء الظواهر الطبيعية، وعبر عن هذا البناء بلغة رياضية. بل إن كل علم لابد أن يكون له من البنائية نصيب، لأن دراسته تنصب على بحث أنساق من العلاقات والروابط بين الظواهر.

ويؤيد بياجيه (1896-1980) الرأي القائل: إن البنائية في تصميمها منهج قبل أن تكون مذهبا، ذلك لأنها أسلوب فني متخصص (Technical)، وتقتضي التزامات عقلية معينة، تؤمن بالتقدم المتدرج. ولقد كان للمنهج الذي تمثله البنائية تاريخ طويل يشكل جزءا من تاريخ العلوم. غير أن سماتها لم تُكتشف إلا في وقت متأخر، وذلك لأسباب منها: صعوبة المنهج البنائي وتعقده، واتجاه العقل البشري إلى أن يتجاهل في البداية مفاهيم الاعتماد المتبادل بين الظواهر، والكل النسقي الذي تشكله، مكتفيا بتفسيرات مبسطة موحدة الاتجاه. هذا فضلا عن أن البناءات الكاملة وراء الظواهر لا تظهر للملاحظة المباشرة، بل توجد على مستويات لا يتوصل إليها إلا بتجريد مضاعف، أو على حد تعبيره: بتجريد (صور الصور Forms of Forms).

على أنه إذا كان للبنائية – بوصفها منهجا- مثل هذا التاريخ الطويل، فإن ظهورها الذي يبدو على شكل انبثاق مفاجئ، والذي اتخذ صورة مذهب فكري متكامل، قد ارتبط بظروف تاريخية معينة، كان لها تأثيرها في الفلسفة الفرنسية بالذات، إذ إن أول البنائيين وأهمهم كانوا من الفرنسيين. فبعد الحرب العالمية الثانية كان إنتاج سارتر الغزير في ميادين الفلسفة والرواية والمسرحية والمقال السياسي هو المسيطر على الجو الثقافي الفرنسي. بل إنه تعدّى نطاق هذا الجو الثقافي حتى أصبح “أسلوبا خاصاً للحياة” يتميز به عدد كبير من الشبان الفرنسيين في مظهرهم وملبسهم ومناقشتهم، هم “الوجوديون” الذين كانوا من المعالم الفرنسية المميزة في ذلك الحين، ولم تظهر قوة فكرية أخرى تتحدى آراء سارتر في الحرية “المحكوم بها” على الإنسان إلا في الماركسية، التي ركزت أبحاثها على قوانين التحول التاريخي، وأكدت حتمية الصراع الطبقي، ولم يمض وقت طويل حتى سعى سارتر نفسه إلى إزالة التعارض الحاد مع الماركسية، حتى وصل به الأمر إلى حد إعلان أن الماركسية لا يمكن تجاوزها، وأن فلسفته بالتالي تتخذ لنفسها موقعا “داخل” الماركسية. هذا على الرغم من أن حركة التقارب لم تكن متبادلة من الطرفين، لأن الماركسية ظلت تهاجم النزعة الذاتية والمثالية في الوجودية، وتصفها بأنها نموذج واضح للإيديولوجية البورجوازية.

خلاصة بالقول: إن البنائية في أساسها نظرية في العلم (ابستمولوجيا)، تؤكد أهمية النموذج أو البناء في كل معرفة علمية، وتجعل للعلاقات الداخلية والنسق الباطن قيمة كبرى في اكتساب أي علم. ولكن الحماسة الفياضة التي أثارتها هذه النظرية في فترة تاريخية معينة هي فترة الستينيات المتأخرة من القرن العشرين. وربما أوائل السبعينيات، أدت بالبعض إلى أن يعاملوها كما لو كانت انقلابا فلسفيا شاملا، وثورة فكرية جديدة تجعل من الذات مجرد حامل للبناءات. ومن التاريخ مجرد تعاقب لصور تظل في أساسها ثابتة، وإن اختلفت مظاهرها التاريخية، على أن هذا التوسع في فهم البنائية قد أدى في تلك الفترة بالذات، إلى بعض التشويه في صورتها، وإلى إقحام عناصر داخلية عليها، عندما أصبحت هي “الموضة” الشائعة، وعُوملت على أنها إيديولوجية جديدة كاملة، طُبقت على ميادين قد لا يكون المنهج البنائي صالحا لها أصلا. وهذا تطرف نجده في كل مذهب يبهر الناس بجدته وخروجه عن المألوف. ولكنه لا يصح أن يتخذ أساسا للحكم على هذه الحركة الفكرية المثمرة. فإذا كانت البنائية تؤكد على الدوام أن البناء “موجود هناك”، بغض النظر عن الاختلافات في ظروف الحياة الإنسانية التي يطبق فيها هذا البناء، فإن قدرة الإنسان على القيام برد فعل على هذا البناء هي الأمر الجدير بالاهتمام حقا.

ومن هنا كان الميل الذي نلمسه لدى كثير من البنائيين إلى تصوير الأنساق أو البناءات كما لو كانت تؤثر وتمارس فعلها وحدها دون أن يكون للإنسان دور فيها – أعني الميل إلى جعل الإنسان مفعولا لا فاعلا- يعبر عن نزوع إلى السلبية وقبول الأمر الواقع. ولقد ضرب دوفرين للتضاد بين سلبية الإنسان وفاعليته إزاء النسق مثلا طريفا، فقال: إن المشكلة التي ينبغي أن تفكر فيها الفلسفة المعاصرة بإمعان هي كيف استطاعت جبهة التحرير الفيتنامية أن تقاوم الأميركيين بكل هذا النجاح -وهي لم تكن قد انتصرت بعدُ عندما قال هذا الكلام- فتلك واقعة تثبت انتصار الفاعلية الإنسانية على العقول الإلكترونية التي طالما استعان بها الأميركيون في التخطيط وفي ممارسة الحرب ذاتها، وما العقول الإلكترونية إلا تجسيد للنسق، وهكذا فإن الأنساق لا تستطيع أن تسير في طرقها بلا مقاومة، ولا تستطيع أن تكبت فاعلية الإنسان وتجعله مجرد مفعول.

وهكذا تظهر الصورة أخيرا  في تطور التاريخ مؤيدة لفكرة القدرة الفعالة للإنسان، حتى على أشد الأنساق والبناءات ثباتا، فأحداث الحركة الطلابية عام 1968م تفجر الإطار السكوني للبنائية، وتنبه العالم إلى أهمية رد الفعل الإنساني على كل نسق يبدو ثابتا، وانتصار فيتنام يبدو كما لو كان هزيمة لمبدأ أساسي تقوم عليه البنائية، هو استقلال الأنساق عن الإنسان. ولكن، إذا كان التاريخ قد بادر إلى الإدلاء بشهادته بعد بلوغ البنائية قمتها مباشرة، فلنذكر أننا لسنا في حاجة إلى شهادة التاريخ لكي ندافع عن فاعلية الإنسان إزاء بناءاته، فالمنطق الداخلي للبنائية هو خير شاهد على ما نقول، إذ إن كل البنائيين الكبار من ستروس إلى ألتوسير، ومن فوكو إلى لاكان، قد بذلوا جهدا عقليا لا نظير له، ومارسوا فاعليتهم الذهنية إلى أقصى حد لكي يكتشفوا بناءات يقولون: إنها تجعل ذهن الإنسان “مفعولا”. بناءً على ما سبق سنحاول تتبع الإرهاصات البنيوية عند كارل ماركس من وجهة نظر لوسيان سيباج، في الجزء الثاني من المقال.

حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة قسم علم الاجتماع - كلية الآداب في جامعة ماردين - حلب سابقاً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock