مقدمة: كنت قد كتبت – قبل عام ونصف – ثلاثة موضوعات، رَصَدَت بدايات وتطور التعليم المصري منذ مطلع القرن الثامن عشر، حتّى نهاية عصر محمد علي باشا.. وسأستكمل – بمشيئة الله- متابعة هذا الرصد إلى العصر الحالي، وما اعترى التعليم المصري ومخرجاته – خلال تلك الفترة- من متغيرات هامة ومحاولات للتحديث وأدوار لعبتها أنظمة الحكم في مسيرته سلبا وإيجابا.. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
بانتهاء حكم محمد علي عام 1849، سادت البلاد حالة من الهدوء، بعد ما يزيد على أربعة عقود من الإنهاك؛ بسبب السياسات التوسعية والحروب المستمرة، التي خاضها محمد علي تحقيقا لمشروعه الذي انتهى بالإخفاق والتراجع، وتوقيع معاهدة لتدن.
يتولى الحفيد عباس الأول الحكم لست سنوات؛ خلفا لجده.. لم يشهد التعليم المصري خلالها أي تقدم يذكر؛ فلقد استمر إغلاق المدارس العسكرية، الذي بدأ في أواخر عهد محمد علي، وضمت بقيت المدارس العسكرية في مدرسة واحدة سميت بـ”المفروزة” كما أغلقت مدرستي المشاة والبحرية.
بالنسبة لمدرسة الطب فقد ساءت حالتها بدرجة كبيرة، بعد رحيل كلوت بك وتتابعت إدارتان الأولى فرنسية والثانية ألمانية عليها، لكن ذلك لم يُجْدِ نفعا، ثم استعان عباس بطبيبين إيطاليين لكن ذلك لم يغير من وضع المدرسة البائس شيئا، كما شهد عهد عباس اتساع نفوذ علي مبارك، الذي تولى ديوان المدارس.. وبذل جهدا كبيرا في إصلاح التعليم.
تابع عباس إرسال البعثات العلمية إلى الدول الأوربية دون التركيز على دولة واحدة، وكان الاهتمام الأكبر بالعلوم المدنية دون العسكرية؛ بعكس ما كان عليه الوضع سابقا.
قضى عباس اغتيالا في يوليو 1854، وتولى عمه محمد سعيد الحكم خلفا له، وقد اتسم عهده بازدياد النفوذ الفرنسي، إذ سمح الوالي الجديد للفرنسيين بصلاحيات واسعة، انتهت إلى منحهم امتياز حفر قناة السويس، وقد كثر إغلاق المدارس في عهد سعيد، فأغلق مدرسة الطب ثم أعاد افتتاحها كما أغلق المهندسخانة، وقد كانت إحدى التجارب الناجحة، ولكنه أعاد افتتاح مدرسة البحرية، ثم عاد فأغلق مدرسة المفروزة، ثم افتتح المدرسة الحربية في القلعة، وكانت دمجا للمفروزة والمهندسخانة.
إجمالا.. لم يكن عصر سعيد، بالعصر الذي نال فيه التعليم العناية الكافية؛ بل يمكن اعتباره عصر اضمحلالٍ للتعليم، برغم أنه واصل إرسال البعثات العلمية إلى أوروبا، مع العودة إلى التركيز على فرنسا دون غيرها، وقد حظيت دراسة الطب بالنصيب الأكبر من المبعوثين خلال فترة ولايته.
هذا وقد شهد عهد سعيد توسعا كبيرا في إنشاء المدارس الفرنسية؛ نظرا لميله الشديد نحو الثقافة الفرنسية، كما كثرت مدارس الإرساليات التبشيرية في ربوع الوطن، كمدارس الفرنسيسكان، وكانت مدرسة الفرير – ذائعة الصيت- قد أنشئت في أواخر عهد عباس، إضافة إلى مدرستين لليونانيين الذي كثر عددهم بشكل واضح، وكذلك المدارس الإيطالية، حيث تأسست الكلية الإيطالية بالإسكندرية 1862، وقد كان سعيد داعما لانتشار المدارس الأجنبية في مصر، حيث بلغ ما قدمه من دعم مادي لبعض تلك المدارس أضعاف ما أنفقه على التعليم المصري، خلال فترة ولايته.
كان سعيد قد ألغى ديوان المدارس، وجعل إدارتها تابعة له بشكل مباشر، كما أسند إدارة بعضها لديوان الجهادية.. ومما كشف عنه بعض المؤرخين الأوروبيين – أن سعيدا كان يرى أن بقاء المصريين في حال من الجهل والتخلف، من أهم دعائم بقاء حكمه!
خلف سعيد في الحكم الخديوي إسماعيل، الذي شهد عهده إصلاحات عديدة في مجال التعليم الذي أسند أمره إلى علي باشا مبارك، الذي واصل الليل بالنهار من أجل تحقيق نهضة حقيقية في هذا المجال، فبدأ بعمل لجنة من الرسميين وغيرهم لوضع خطة إصلاح الكتاتيب والمدارس الأولية، وأثمرت اجتماعات تلك اللجنة ومشاوراتها عن ما عرف بلائحة العاشر من رجب1284هـ، وكان من ثمار هذا القانون تنظيم التعليم في الكتاتيب؛ ما جعلها تتضاعف ثلاث مرات في عهد إسماعيل، كما أنشئت لأول مرة في مصر مدرسة للبنات هي مدرسة السيوفية- سيتم تغيير اسمها إلى السنية بعد ذلك- ثم تبعتها مدرسة أخرى هي مدرسة القرابية، وكانت زوجة الخديوي إسماعيل هي من تتولى الإنفاق والإشراف على هاتين المدرستين.
ثم افتتحت مدرسة الإدارة والألسن، التي تحولت بعد ذلك إلى مدرسة للحقوق، وكذلك افتتحت مدرسة المحاسبة ومدرسة أخرى لتدريس علم المصريات، وشملت تدريس اللغة المصرية القديمة واللغة الحبشية وغيرها.. وضمت عددا قليلا من الطلاب، كما شهد عهد إسماعيل محاولات جادة لإصلاح الأزهر الشريف، وإن قوبلت تلك المحاولات بمعارضة قوبة من أنصار التقليد من المشايخ.
كذلك اهتم إسماعيل بإرسال البعثات التعليمية لكل من فرنسا وإنجلترا وألمانيا، وبلغ عدد الطلبة المبعوثين للخارج – حسب تقارير السلطات المصرية – نحو 172 طالبًا ما بين 1863 و1879.
وقد بلغت المدارس الابتدائية والإعدادية الحكومية في عهد إسماعيل (1368) مدرسة وفق إحصائية عام 1873، لكن هذا العدد تناقص بشكل كبير بسبب الأزمة المالية؛ فوصل خلال خمس سنوات إلى نحو (663) مدرسة فقط.
وقد غرقت البلاد بسبب سياسات الاستدانة التي اعتمدها إسماعيل في الأزمات المالية المتلاحقة حتى انتهى الأمر بخلعه.
تولى توفيق الحكم عام 1879، وبدأ عهده بالاهتمام بالتعليم، وكان قد أنشأ مدرسة القبة على نفقته الخاصة أثناء ولايته للعهد. وعندما تولى الحكم أصدر مرسوما في 27 مايو 1880، بتأليف لجنة للبحث في تنظيم التعليم وشئونه، واقترحت اللجنة تأسيس مدرسة عليا للمعلمين لتخريج أساتذة، كما اقترحت زيادة عدد المدارس، فأنشأت الكثير من معاهد التعليم الابتدائية والثانوية والعالية. وقد افتتحت المدرسة العليا للمعلمين في عهده، وأنشئت مدرسة مسائية للتعليم. وأنشأت الحكومة المجلس الأعلى للمعارف في 28 مارس 1881.
إلا أن البلاد ما لبثت أن دخلت في عهده نفقا مظلما، فتدهورت أوضاعها في مختلف المجالات وخاصة التعليم؛ ويرجع ذلك إلى تدخُّل الأجانب في شئون البلاد، ما أدى إلى اندلاع الثورة العرابية، واكتمال حلقات المؤامرة على مصر بالاحتلال البريطاني 1882.
في بداية عهد الاحتلال زادت ميزانية التعليم من 81 ألف جنيه عام 1890، حتى وصلت إلى 305 ألف جنيه عام 1906، وزاد عدد المدارس، وكان الهدف من ذلك تخريج موظفين يعملون تحت إدارة الاحتلال، ويكونون طوع أمره.
ومن أجل إحكام السيطرة على طلاب المدارس – رأت سلطة الاحتلال أن تكون المؤسسات التعليمية تابعة لوزارة الداخلية، كما زادت قيمة المصروفات؛ ليصبح التعليم متاحا لفئة القادرين دون غيرهم، وألغيت المجانية.
وجرت محاولات عديدة لصبغ التعليم بالصبغة الإنجليزية؛ إذ اقتصرت الدراسة في مدرسة الطب على اللغة الإنجليزية عام 1898، كما أنشئ قسم خاص باللغة الإنجليزية، في مدرسة الحقوق في العام التالي، وشهد عام 1900، إلغاء القسم الفرنسي بمدرسة المعلمين.
ثم كان تحويل البعثات العلمية إلى إنجلترا بدلا من فرنسا، ولكن الحركة الوطنية تبنت الدعوة إلى تعريب التعليم، فعُرّبَ بعد ذلك في العديد من المدارس، مثل مدرسة الفنون والصنائع والزراعة، وغيرها من المدارس.
ويمكننا القول أن السنوات العشر الأولى من عمر الاحتلال البريطاني لمصر الذي امتد لأكثر من سبعة عقود- قد شهدت محاولات خبيثة – من جانب الإنجليز وأعوانهم – استهدفت توجيه التعليم لخدمة أغراض المحتل وأهدافه، مع وجود مقاومة وطنية لتلك الممارسات، استطاعت الحد منها.. وإفسادها غير مرّة.