تساؤلات متعددة تطرح نفسها بقوة، إزاء تصاعد الجدال حول المسألة الكردية، سواء في العراق أو في المنطقة عموما بشأن أكراد العراق، والتفاعلات الجارية حول مدينة كركوك؛ إذ يكفي أن نلاحظ كيف دخل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، على خط هذه التفاعلات؛ مُرسلا إشارات بالتدخل في حال تسليم المحافظة الغنية بالنفط إلى الأكراد، وفق اتفاق بين أربيل والحكومة الاتحادية في بغداد.
ومن الواضح، بحسب تصريحات إردوغان بأن “كركوك هي موطن التركمان” فإن هذه التصريحات تحمل رسالة واضحة، مفادها أن تركيا لن تبقى على الحياد تجاه الصراع القائم حاليًا، بين الأكراد الذين يريدون الاستفادة من اتفاق سابق لوضع أيديهم على المدينة، من جهة وبين أحزاب شيعية، تريد الاحتفاظ بها تحت سلطة الحكومة المركزية المحسوبة على إيران، من جهة أخرى.
قطعا يُزيد الدخول التركي على خط تفاعلات مدينة كركوك، من الضغوط على حكومة السوداني، التي تُريد التهدئة مع الأكراد لتسهيل تقاسم عائدات النفط؛ لكن استعداء أنقرة ليس في صالحها، نتيجة امتلاك الأتراك أدوات ضغط متعددة، في مقدمتها النفط والمياه.
وبالتالي فإن ذلك يطرح عددا من التساؤلات حول إشكاليات الصراع “التركي – الشيعي” حول مدينة كركوك؛ خاصة أن هذه التساؤلات لا ترتكن إلى المخاوف من أن يفتح ذلك الأبواب أمام تقسيم جديد للعراق، بقدر ما تستند إلى إشكاليات المسألة نفسها وأسلوب تناولها، والكيفية التي تستشرف بها الاحتمالات المستقبلية للعراق أو المنطقة العربية.
ضمن أهم هذه التساؤلات: لماذا التركيز على أكراد العراق، وصرف النظر -إلا قليلًا- عن الإشكالية الكردية في سوريا؛ ثم لماذا تبسَّط المسألة الكردية إلى درجة التغاضي عن التشابك والتعقيد، الذي تبدو عليه هذه المسألة، في تقاطعاتها مع العديد من الملفات المطروحة، على ساحة المنطقة، وجوارها الإقليمي؟ أضف إلى ذلك، مدى الصحة في مُعالجة المسألة الكردية دونما مراعاة نقاط التلاقي والتباعد بشأن الاستراتيجيات الدولية وتوجهاتها، بخصوص العراق وسوريا.. ثم تركيا وإيران؟
لا ندعي إمكانية تناول هذا التساؤل -ذي الشعب- في هذه الأسطر المحدودة؛ ولكن يمكن أن نؤكد على نقاط ثلاث، على هيئة رؤوس أقلام تُشير أكثر مما تُبرهن على ما نود أن نقوله..
فمن جهة، ليس من الصحيح تناول مشكلة أكراد العراق، من منظور الوضعية العراقية التي تشهد تفككًا داخليًا، قد لا يكون له علاج في المستقبل القريب؛ إذ ليس هذا مبررا للدعوة إلى “الاستقلال الكردي” عن العراق، في إطار فيدرالي، بقدر ما يكون من الصواب معالجة التفكك العراقي، في إطار ما يمكن تسميته بالاندماج الوطني، للحفاظ على “دولة العراق” التاريخية.
أضف إلى ذلك، أن فوز الأكراد بمدينة في أهمية كركوك، سيؤدي إلى تفاقم التفكك بين المكونات العراقية، ولنا أن نتأمل كيف سيتزايد حراك أهل السنة لإقامة فيدراليتهم، حتى وإن بدا أن آوانها ما زال بعيدا؛ ناهيك عن تأثير كل ذلك على تحالف القوى الشيعية الذي يبدو في حالة تصدع أصلا.
ثم إذا تأملنا الخارطة السياسية المجاورة للعراق، لنا ألا نتوقع أن تُحقق الفيدرالية للأكراد دولة الرخاء والاستقرار؛ بل على العكس سيساهم في خلط ملفات المنطقة وإعادة تشكيلها ـ وإن بعد سنوات قد تطول ـ بعيدا عما يتوهمه البعض من العدالة في الحقوق والسلطة والثروة.
وبالتالي، فإن الاحتمال المستقبلي، بناء على تلك الوضعية هو التأسيس لنزاعات وتناحرات متعددة؛ ذلك أن انفصال كردستان العراق، حتى ولو في إطار فيدرالي، مهما حاول البعض من تهوين الأمر، سيفتح الطريق أمام صراعات جديدة، مذهبية وطائفية، أقل ما يُقال بشأنها إنها خطوة في اتجاه تقسيم العراق الذي نعرفه؛ تقسيم سوف يتجاوز حدود هذا البلد لتضرب توابعه دول الجوار الأخرى.
هذا من جهة.. من جهة أخرى، ليس من الصحيح أن يتركز الجدال حول أكراد العراق، مع صرف النظر عن الأكراد في سوريا. فقد دخلت الورقة الكردية على الخط، لتتشابك مع الأوراق السورية، المتشابكة والمعقدة أصلا. فمنذ أن نجح الأكراد في شمال البلاد في طرد مسلحي داعش من مساحات ليست بالقليلة، وإقامتهم منطقة إدارة ذاتية، بدا أن جزءًا منهم غير راض عما يجري في جنيف، فقرر الانتقال لخطوة أخرى، تبدأ بدمج ثلاث مناطق كردية تُدار ذاتيًا في شمال سوريا، ومن ثم التفاوض على حكم فيدرالي لمناطق الأكراد.
ثم إذا لاحظنا الخارطة التي رسمت لما أُطلق عليه إقليم “كردستان سوريا”، تلك التي نشرها مركز للدراسات يتخذ من مدينة “بون” الألمانية مقرًا له، في نهايات 2018؛ كان لنا أن نأخذ استعداد أكراد سوريا، في اتجاه إجراء انتخابات في مناطق سيطرتهم، مأخذ الجد. وبالتالي، فإن الاحتمال المستقبلي، استنادًا إلى تلك الملامح، هو تفعيل ما تعيشه سوريا اليوم من تقاسم جغرافيتها كمناطق نفوذ بين القوى الكبرى الدولية والإقليمية.
وأخيرًا.. ليس من الصحيح، التفاعل مع المسألة الكردية بمعزل عن التوجهات الاستراتيجية للقوى الكبرى، بخصوص العراق وسوريا. إذ ليس من المصادفة أن تستطيع روسيا الحصول على موطئ قدم لها في سوريا، وأن تتقاسم النفوذ مع الولايات المتحدة الأمريكية، بخصوص مناطق “خفض التوتر” وغيرها من المناطق.
كما أنه ليس من المصادفة كذلك، أن تكون هذه الأخيرة الراعي الأهم لحكومة كردستان العراق؛ وفي الوقت نفسه، الداعم الرئيس لقوات “سوريا الديمقراطية”، التي تُمثل فيها وحدات حماية الشعب الكردي فصيلًا رئيسًا، والتي تعول عليها واشنطن في المعارك ضد المتشددين في الشمال السوري.
ثم إذا أدركنا ملامح الاستراتيجية الأمريكية الخاصة بالمشرق العربي، وأدركنا أن الولايات المتحدة ليست معنية كثيرا بـ”الحق في تقرير المصير” كما تدعي دائمًا وأبدًا، لنا أن نُدرك ماذا يعني محاولات أكراد العراق، ومن وراءهم أكراد سوريا، على الدولتين داخليًا وإقليميًا، في ظل التنوع الديموغرافي والإثني والمذهبي؛ وهو نفسه التنوع الذي لا يغيب عن تركيا وإيران. وبالتالي.. فإن الاحتمال المستقبلي، في إطار الصراع على بناء نظام دولي وإقليمي، هو تزايد المشكلات التي سوف تنتج عن تلك الخطوة، وانسحابها ـ بالطبع ـ على رباعية العراق وسوريا وتركيا وإيران.
في هذا السياق، فإن الدائرة المكونة لهذه النقاط الثلاث تشير إلى أن طرق تحقيق الفصل، أو الانفصال السياسي والإداري ليست سهلة؛ فهناك معوقات داخلية وإقليمية ودولية. هذا فضلا لاعن الاختلافات الكردية حول هذه المسألة، وآلية تحقيقها، ومدى دستورية الحكومة التي تقوم بها.
أضف إلى ذلك، أن “الدولة – الحلم”، التي يحلم بها الأكراد، ستكون دولة حبيسة، لا حدود بحرية لها، بكل ما يعنيه ذلك من مشكلات ومن بينها، بالطبع المشكلات المتوقعة بين الأكراد في العراق وسوريا. ناهيك عن الإشكاليات الكردية الذاتية وتداعياتها في تقسيم الأكراد أنفسهم. يكفي أن نشير هنا، إلى أن الأكراد ينقسمون إلى أربع مجموعات، هي: الكرمانج، والكلهود، واللور، والكوران؛ وكل منها تتحدث لغة مختلفة.
إن التعدد والتنوع داخل أي بلد هو في حقيقته من سمات القوة؛ بشرط تفعيل قيم العدالة والتعايش المشترك والديمقراطية، وهو ما يساعد على الاندماج الوطني، وليس الانفصال.. الذي سيؤدي إلى دول صغيرة ضعيفة، تساهم في رسم حدود جديدة لدول المشرق العربي.