لعله من النافل القول إن البحار والمحيطات تشكل جزءًا تكوينيًا في جغرافية المنطقة العربية؛ فهذه المنطقة، التي لا يشك أحد في أنها تقع ـ بمجموعها ـ في موقع استراتيجي مهم من الوجهة الجغرافية والسياسية، تنفتح على محيطين “الأطلنطي” و”الهندي”، وعلى بحرين مغلقين “المتوسط” و”الأحمر”، وعلى خليج هائل “الخليج العربي”.
وبقدر ما يُمكنها هذا الموقع من أسباب الربط بين قارات ومحيطات، بقدر ما يجعل تكاليف هذه الوظيفة باهظة على سيادتها ومصيرها، ويفتح عليها أطماع دولية وإقليمية. المثال الأكثر وضوحا على ذلك، هو البحر الأحمر؛ أو بالأحرى: البحيرة العربية التي تكمن فيها أهم نقاط تماسك الأمن العربي أو انهياره.
ويأتي الحديث عن هذه البحيرة العربية، في الإطار العام لما تشهده منطقتنا، وجوارها الجغرافي البعيد والقريب، من تحركات لمشروعات جيواقتصادية كبرى، مثل “ممر البهارات”، و”الحزام والطريق”.. وغيرها.
فـ”البحر الأحمر” يتميز بموقع جيوسياسي فريد، يضفي نوعا من التعقيد على العلاقات الإقليمية والدولية؛ فهو يقع عند نقطة التقاء قارات ثلاث: أفريقيا غربًا، وآسيا شرقًا، وأوروبا شمالًا. ولأنه يحتل موقعه هذا، بين بحار الشرق والغرب، لذا يمكن تشبيهه بأنه: “جسر طواف” يصل بين هذا وذاك، الشرق والغرب. ناهيك عن كونه يربط بين البحر العربي والمحيط الهندي وبين البحر المتوسط، وذلك بواسطة مضيق باب المندب في الجنوب وقناة السويس في الشمال.
بهذا يصبح البحر الأحمر “همزة وصل إستراتيجية”، لكثير من الطرق المائية خصوصًا. أضف إلى ذلك، أن البحر الأحمر هو جزء من منطقة “الشرق الأوسط”، غير المستقرة؛ والأهم أنه يقع ما بين أكبر حقول النفط في الخليج العربي، وأكبر مستهلكي النفط في غرب أوروبا.
فإذا ما اقتربنا من البحر الأحمر، من المنظور الجغرافي، نجد أنه بوصفه “منطقة جغرافية”، يشمل كل الدول التي تشاطئه أو تطل عليه، وهي: الأردن والسعودية واليمن ومصر والسودان والصومال وجيبوتي، ثم إريتريا وإسرائيل. وبهذا، تتأكد ـ من جديد ـ المقولة، إياها، أي: “إن البحر الأحمر هو البحيرة العربية التي تكمن فيها أهم نقاط تماسك الأمن العربي أو انهياره”.
فإذا كانت الحركة الاقتصادية والتجارية، مثلًا، المُنطلقة من، والمُتجهة إلى، المنطقة العربية متوقفة على تكامل وظائف الخليج العربي والبحر المتوسط، فإن هذا التكامل متوقف بدوره على وجود البحر الأحمر وعلى وظيفة الوصل ـ بين الخليج والمتوسط ـ التي يؤديها.
وكما أن الخليج يتنفس ـ باقتصاده وتجارته ـ من رئة البحر الأحمر، فالمتوسط، هو الآخر، يتأثر ـ سلبًا وإيجابًا ـ تبعًا لما يحدث في البحر الأحمر. ولعل هذه الحقيقة هي ما عبرت عنها المقولة الشهيرة لـ”مانشين” (وزير خارجية إيطاليا في نهاية القرن 19)، حينما صرح ذات مرة قائلًا: “إن مفاتيح البحر المتوسط تقع في البحر الأحمر”.
وإذا ما حاولنا الاقتراب من البحر الأحمر بوصفه بحيرة عربية، والتعرف على تلك المفاتيح التي أشار إليها “مانشين”، فسنجد أنها نوعان:
أولهما، مداخل البحر الأحمر؛ وهي ثلاثة: خليج العقبة الذي يشكل ذراعه الشمالي الشرقي، وخليج السويس الذي يشكل ذراعه الشمالي الغربي، ذو الأهمية الاستراتيجية المعروفة نتيجة حفر قناة السويس وافتتاحها للملاحة منذ عام 1896. أما ثالث المداخل، فهو باب المندب، الذي يمثل مدخل البحر الأحمر من جهة الجنوب.
ثانيهما، الجزر؛ إذ يوجد حوالي “379” (تسع وسبعون بعد المائة الثالثة) جزيرة في البحر الأحمر، وهي ـ في معظمها ـ جزر صغيرة جدًا؛ ففي كل ميل مربع من المسطح المائي للبحر الأحمر توجد “2.1” جزيرة، معظمها في الجزء الجنوبي من البحر، ويقل العدد كلما اتجهنا شمالًا. وبالرغم من أن بعض هذه الجزر بركانية وبعضها الآخر مرجانية غير مسكونة، إلا أن معظمها يمكن استخدامه في الأغراض العسكرية، بوصفها نقاطا تكتيكية، أو منطلقات للسيطرة على الملاحة في البحر الأحمر.
في هذا السياق.. فإن الأهمية الاستراتيجية لبعض جزر البحر الأحمر، وخاصة تلك التي تتحكم في مداخل البحر، لابد أن تحض على مضاعفة جهود الدول الساحلية الواقعة عليه، لكي تسيطر على تلك الجزر.. كما أنها تزيد من المسئوليات الدفاعية، التي لابد وأن تنهض بها الأقطار المالكة للجزر نفسها.
وبما أن حوالي 66.8 % من هذه الجزر “جميعًا”، هي أراض عربية؛ فإن البلدان العربية على البحر الأحمر، يتحتم عليها الدفاع عن جزرها ضد القوى المعتدية. ولما كان نقص المياه في هذه الجزر، ولاسيما تلك الناشئة عن الروسوبات المرجانية التي يحفل بها البحر يحول دون سكناها، فإن هذا الوضع يؤدي بدوره إلى مضاعفة المسئولية العربية في مراقبتها والدفاع عنها.
ويكفي أن نشير هنا، إلى أن بعضًا من هذه الجزر الواقعة في البحر الأحمر، وخاصة تلك المتحكمة في مداخل البحر؛ كانت سببًا في كافة الأعمال العسكرية و”الحروب” التي شهدتها منطقة البحر الأحمر، بل المنطقة العربية على مدى الخمسين عامًا الماضية.
فإضافة إلى جزيرتي تيران وصنافير، وأهميتهما في خليج العقبة؛ وفضلًا عن جزيرة حنيش الكبرى، التي أثارت توترًا هائلًا في ما بين اليمن وإريتريا، بعد أن قامت الأخيرة باحتلال الجزيرة منذ سنوات مضت.. فإن هناك جزيرة شدوان صاحبة الدور المعروف في الحرب بين كل من مصر وإسرائيل خلال عامي 1956 و1967. فمنذ أن احتلت إسرائيل مدينة “أم الرشراش” العربية، وأسست لنفسها وجودًا في خليج العقبة، وأطلقت على أم الرشراش اسم ميناء إيلات (25 يونيو 1952)؛ فقد أدركت مصر مدى التهديد الاستراتيجي الذي تفرضه إسرائيل على الأمن العربي.
أما في عام 1973، خلال حرب أكتوبر، فقد نبّه حصار القوات ـ العسكرية ـ البحرية المصرية لباب المندب بمشاركة اليمن (الشمالي، آنذاك)، إلى أهمية هذا المضيق الاستراتيجية، وأهمية جزيرة بريم كمركز تحكم جنوبي في ملاحة البحر الأحمر.
ومن ثم، لا نغالي إذا قلنا: إن البحر الأحمر، وإن كان واحدًا من أهم الطرق البحرية العالمية، على أساس أنه يوفر لقوى إقليمية ودولية إمكانيات الوصول إلى البحر المتوسط والمحيط الأطلنطي وـ كذلك ـ المحيط الهندي؛ فهو (أي: البحر الحمر)، قد أصبح، على الصعيد السياسي ـ منذ حرب أكتوبر 1973 ـ قضية أمن حيوية، تصطرع على ساحته البلدان العربية المطلة عليه.
بل، إن هذه الأخيرة، قضية الأمن، قد تبدت بوضوح عندما أضافت إسرائيل أبعادًا غاية في التعقيد على هذه القضية؛ ناهيك عن الأبعاد التي تطرحها المشكلات المتعلقة بقرب البحر الأحمر من مناطق حيوية، مثل منطقة القرن الأفريقي، خاصة إذا أدركنا ما هو مطروح بشأنها من قبل قوى دولية كبرى (الولايات المتحدة الأمريكية، كمثال، ومشروعها المطروح بشأن القرن الأفريقي الكبير).
وهكذا ..
تبدو أهمية جزر البحر الأحمر الاستراتيجية من منظور الأمن العربي والمصالح الحيوية العربية؛ فالبحر الأحمر يمكن اعتباره – بحق – بمثابة خط أنابيب لنقل النفط الخام من مصادر إنتاجه في الخليج العربي إلى أوروبا؛ كما أنه الطريق المائي الرئيس الذي تمر منه البضاعة المستوردة إلى الخليج من أوروبا.
وإذا عرفنا أن أوروبا تحتاج إلى 60 % من نفطها من الخليج، وإذا عرفنا أن متوسط عدد السفن التي تمر منه يوميًا هو 65 سفينة، وأن متوسط الأطنان التي تمر منه سنويًا هو 380 مليون طن.. إلخ؛ لنا أن نعرف بالتالي، الوظيفة الحساسة التي يؤديها البحر الأحمر، وتأثيرها على منظومة “الأمن العربي” ككل.