رؤى

التعليم المصري وأفاق التطور.. في عهد ثورة يوليو 1952

منذ تولي سعد زعلول وزارة المعارف عام 1906، ومحاولات المصريين لا تهدأ؛ لإقرار مجانية التعليم.. في ظل تعنت شديد من سلطات الاحتلال، إلى أن  أقرت مجانية التعليم الابتدائي في العام  الدراسي 1943/1944 في عهد حكومة الوفد، وكان طه حسين هو المستشار الفني لوزير المعارف أحمد نجيب الهلالي.. ثم شهد العام الدراسي 1950/1951، إقرار مجانية التعليم الثانوي، في عهد حكومة الوفد، وكان الدكتور طه حسين على رأس وزارة المعارف.

في احتفال مؤسسة أبنية التعليم، بافتتاح مبنى مدرسة جديدة، بسوق السلاح بالقاهرة، أواخر يونيو 1954، ألقى الرئيس جمال عبد الناصر كلمة جاء فيها: “إنني أحس إحساسا قويا؛ بأن كل مدرسة ما هي إلا حجر، في بناء صرح الوطن… المدارس خدمات اجتماعية ينتفع بها أهل هذا الوطن، وإذا حولناها إلى قيم مادية لوجدناها علاوة لكل موظف، وقيمة لكل فرد، ومنفعة لكل فلاح… لن تتحقق الثورة السياسية والاجتماعية إلا إذا تغيرت طريقتنا في التفكير وتخلصنا من الاستعمار الفكري.. فقد حورب التعليم في الماضي، وبدأ دنلوب الإنجليزي (مستشار وزارة المعارف) يسمم أفكار الشباب ويكوّن فئة من الخاملين، عملوا على هدم التعليم… واجبنا اليوم التخلص من أساليب دنلوب وآثار الاستعمار الفكري، وبدء نهضة فكرية يؤمن فيها الفرد بالجماعة، والجماعة بالفرد… ونحن لا نسير إلى أهدافنا بقوة وعزم إلا إذا تخلّص الشباب من البلبلة، وعوامل عدم الاستقرار وعدم الثقة بالنفس، ولن يكون هذا إلى بالتعليم”.

وفي أكثر من مناسبة أفصح عبد الناصر عن رؤيته لمستقبل التعليم في مصر، وهي رؤية واضحة الأسس والمعالم ذات أبعاد اجتماعية وإنسانية قبل أن تكون وظيفية أو أيدلوجية.

وفي أول دستور صدر في عهد الثورة في يونيو 1956 بعد إسقاط دستور 1923 جاءت النصوص التالية فيما يخص التعليم:

مادة (48): التعليم حر في حدود القانون والنظام العام والآداب

مادة (49):التعليم حق للمصريين جميعا تكفله الدولة بإنشاء مختلف أنواع المدارس والمؤسسات الثقافية والتربوية والتوسع فيها تدريجيا وتهتم الدولة  خاصة بنمو الشباب البدني والعقلي والخلقي

مادة (50): تشرف الدولة على التعليم العام، وينظم القانون شئونه، وهو في مراحله المختلفة بمدارس الدولة بالمجان في الحدود التي ينظمها القانون.

مادة (51): التعليم في مرحلته الأولى إجباري وبالمجان في مدارس الدولة.

وفي دستور 1964، نرى النصوص التالية:

مادة (38): نفس المادة 49 في دستور 56، مع إضافة كلمة “والجامعات”، المدارس.

مادة(39): تشرف الدولة على التعليم العام، وينظم القانون شئونه، وهو في مراحله المختلفة، في مدارس الدولة وجامعاتها بالمجان.

وقد أتى مجلس قيادة الثورة بإسماعيل القباني الذي كان معروفا بتوجهه الواضح نحو أرستقراطية التعليم – رغم إنكاره ذلك غير مرّة- وقد رشحه صديقه المقرب رئيس مجلس الدولة، مستشار الثورة في أيامها الأولى الدكتور عبد الرزاق السنهوري، ورغم أن عميد الأدب العربي كان صاحب التوجه الثوري في رؤيته للتعليم المصري؛ إلا أن ارتباطه الشديد بالوفد ووجوده في آخر حكومات الوفد، جعل مجلس قيادة الثورة يتجنب إسناد المهمة إليه؛ فلقد كانت الثورة تبني شعبيتها بعيدا عن الكيانات التي كانت قائمة قبل قيامها.

إسماعيل القباني
إسماعيل القباني

والحقيقة أن إسماعيل القباني ترك آثارا طيبة في مسيرة التعليم في الفترة القصيرة التي تولّى فيها الوزارة،

وفي خطابه أمام الاجتماع السنوي لليونسكو يوم 17/11/1952، أكد القباني أن أهداف العهد الجديد في التعليم يمكن تلخيصها في الخطوط العريضة التالية:

أولا: وضع برنامج مدروس بعيد المدى للتعجيل بتعميم التعليم الإجباري تعميما كاملا.

ثانيا: العمل على تكييف برامج التعليم وفقا لأهداف حركة التحرير، ولمقتضيات البيئة، وبخاصة البيئة الريفية التي تضم الغالبية العظمى من سكان مصر.

ثالثا: إعادة تنظيم التعليم الفني والمهني تنظيما يكفل زيادة كفايته، ويجعله أوثق ارتباطا بالحاجات الحقيقية للحياة الاقتصادية.

ولا شك أن القباني كان ذا رؤية واضحة المعالم في إصلاح التعليم؛ لكن هذه الرؤية كانت وفق محددات وضوابط التوجه الجديد، ما قيّد يده في بعض الأمور، وأطلقها في البعض الآخر.. وهذا ما يتضح بجلاء في تصريح له نشر في الاهرام بتاريخ 13/11/1952، جاء فيه:

“إن همَّ الوزارة يجب ألا ينصرف إلى التسرع في التعليم من حيث الحجم فقط، بل يجب أن يقترن ذلك بتوفير العوامل التي تجعله مثمرا، أي محققا ولو لشيء من أهدافه، فهو لا يريد أن يُعطي التلاميذ تعليما مثاليا كالذي يطمع فيه أصحاب  النظريات التربوية، وإنما يريد أن تنال الأمة من التعليم ما يساوي بعض ما ينفق فيه، وهو لا يريد أن يسقى التلاميذ ماء معطرا؛ ولكنه يريده ماء خاليا من الميكروبات”.

لقد كان الهدف السادس للثورة هو إقامة عدالة اجتماعية، وكان من أوجب الأمور لتحقيق هذا الهدف، أن تتاح فرصا متساوية لكل المصريين للحصول على تعليم مناسب.. وهذا ما دعا إليه د. طه حسين، رجال الثورة من خلال إقرار مبدأ ديمقراطية التعليم، واعتباره أول مبادئ الديمقراطية، حيث تترسخ قاعدة تكافؤ الفرص التعليمية. والدولة الديمقراطية ملزمة بأن تنشر التعليم؛ لأنه وسيلة يجب أن تكون بيد الفرد‏؛ ليستطيع أن يعيش ويشعر بحقه في الوجود الحر، والدولة ملزمة بالدفاع عن هذا الوجود، كما أنه واجب الدولة أن تسمح لأبناء الشعب بمواصلة فرص التعليم، مادامت قدراتهم الذهنية تسمح بذلك‏.‏ كما أن التعليم بمجانيته، والتوسع فيه، ضرورة حتمية لتلبية احتياجات الاقتصاد القومي.

التعليم في مصر

وفي سبتمبر من عام 1954، يضطلع الشاب الثوري كمال الدين حسين  بمسئولية وزارة المعارف؛ ليطبق رؤية الثورة في التعليم، خلال السنوات الست التي قضاها في الوزارة، فيحوّل اسمها من وزارة المعارف إلى التربية والتعليم، لإيمانه بأهمية التربية قبل التعليم. وقد سعى كمال الدين حسين إلى توحيد عملية إعداد المعلمين عبر معاهد إعداد المعلمين، وكليات التربية فحسب، وساهم في تأسيس نقابة المعلمين واختير نقيبا للمعلمين عام 1959.

عمل حسين على إقرار مبدأ المواطنة، وجعلها الهدف الأول للتعليم، من خلال توحيد أنواع التعليم الذى كان بعضه أهليا وبعضه أجنبيا، وحاصر التعليم الخاص، ودمج التعليم الأزهري في جسد التعليم المصرى عام 1961، ليفتح قنوات انتقال الطلاب والمعلمين بين التعليم الأزهري والتعليم الحكومي، وتدريس المقررات الحكومية نفسها في المعاهد الأزهرية.

وقد ظلّ التعليم الجامعي لعشر سنوات كاملة بعد قيام الثورة بمصروفات، لكن قانون التعليم الجامعي كان يمنح المجانية لكل من اجتاز الثانوية العامة بنسبة 60% أو أكثر، ويظل الطالب محتفظا بالمجانية ما لم يقل تقديره العام عن جيد، بالإضافة إلى عدد من الثغرات كانت تفتح من خلالها أبواب المجانية لكثير من الطلاب.

بذلك أصبح التعليم المصري بدءا من يوليو 1962، مجانيا بكل مراحله.. وكان من أهم ثمار ذلك أن أعطيت الفرصة كاملة لتعليم الفتيات؛ لأن الأسرة قبل الثورة كانت تُفضّل تعليم الأبناء الذكور، وترك الإناث دون تعليم، بسبب ارتفاع نفقات التعليم، وصعوبة الوضع الاقتصادي لدى أغلب المصريين.

وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن عدد طلاب المرحلة الابتدائية وصل عام 1965، إلى حوالي 3.417.000 طالب وطالبة، مقابل 1.392.000 عام 1952.

التعليم

في حين وصل عدد المقيدين بالتعليم الثانوي العام عام1969، حوالي 292.109 طالب وطالبة، مقابل 109.711 عام 1953، إلا أن نسبة القبول بالثانوي العام قد تناقصت؛ حيث كانت في عام 1953 حوالي 84.5%، تناقصت إلى 54.8% عام 1969. وعلى العكس من ذلك فقد زادت نسبة القبول بالتعليم الثانوي الفني من 15.5% عام 1952، إلى حوالي 45.2% عام 1969، ووصل عدد طلاب الثانوي الفني بأنواعه المختلفة عام 1969 إلى حوالي 197.054 طالب وطالبة، مقابل 15.566 عام 1953، ولا شك أن نظام يوليو كان داعما للتوجه نحو التعليم الفني لتوفير الأيدي العاملة الماهرة التي تحتاجها المؤسسات الصناعية الكبرى (أكثر من 1200 منشأة صناعية أنشئت خلال الفترة من 1954إلى 1970).

 ورغم زيادة أعداد الطلبة بالجامعات والمعاهد العليا؛ حيث وصل عدد الطلاب بالتعليم العالي إلى حوالي 122.883 طالب وطالبة عام 1969، مقابل 35.026 عام 1952، والمعاهد العليا وصل عدد طلابها حوالي 34.202 عام 1969، مقابل 1.520 عام 1952، إلا أن نسبة المقبولين من الناجحين في التعليم الثانوي العام والفني بالجامعات انخفضت بشكل ملحوظ من 89.3% عام 1952، إلى حوالي 48.6% عام 1963، ثم إلى حوالي 29.8% عام 1969، لكن هذه النسب تصبح مقبولة؛ إذا وضعنا في الحسبان تزايد أعداد الطلاب عدة أضعاف.

وقد انخفضت نسبة الأميّة في مصر من 90% قبل قيام الثورة إلى 60% في بداية عقد السبعينات، ووصلت نسبة البطالة نتيجة هذه السياسات القائمة على مبدأ تكافؤ الفرص من 70% قبل الثورة إلى ما دون10% أواخر الستينيات.

لقد نجح نظام يوليو في إحداث نقلة نوعية في التعليم المصري، تغلب خلالها على العديد من العوائق والصعوبات، كما كانت هناك بعض السلبيات بفعل حداثة التجربة ومناوءة الثورة المضادة التي حاولت إفساد التجربة الثورية بكل ما اوتيت من قوة ليس في مجال التعليم فقط بل في شتّى المجالات.. حتى كان لها الغلبة برحيل الرئيس عبد الناصر وتولي السادات لمقاليد الحكم؛ ليبدأ التعليم المصري مرحلة الهبوط التي مازالت مستمرة إلى يومنا هذا.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock