في البحث حول ملامح مفهوم “التسخير” في كتاب الله الكريم، وصلنا، خلال الأحاديث السابقة، إلى أن تسخير الأشياء والظواهر الكونية يأتي لمصلحة الإنسان؛ وضمن هذه الظواهر الكونية، التي سَخَّرَها الله سبحانه وتعالى، يأتي تسخير “الْفُلْكِ”. وقد وصلنا، في الحديث السابق، إلى أن تسخير “الْفُلْكَ” وتسخير “الْأَنهَارَ”، يأتي في سياق واحد مع تسخير “الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ” وتسخير “اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ”؛ وهو السياق الذي يتم ختامه بـ”وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا”.
إذ، يأتي هذا السياق في قوله سبحانه: “اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْأَنهَارَ ٭ وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ٭ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ” [إبراهيم: 32-34].
سُنَّة الحركة
إلا أن الأمر الجدير بالتأمل والانتباه، في آن، أن سياق الآيات الكريمة السابقة، تؤشر إلى أهم سُنَّة من سنن التسخير، ألا وهي سُنَّة أو قانون “الحركة”، وذلك من خلال “لام” التعليل في “لِتَجْرِيَ”، عبر قوله سبحانه: “وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ”؛ وأيضًا، من خلال دلالة لفظ “دَائِبَيْنِ”، عبر قوله تعالى: “وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ”.
سنة التسخير هذه، بما تُعبر عنه من قانون “الحركة”، تتبدى بوضوح عبر التأكيد على جريان “الْفُلْكَ” في “الْبَحْرَ”، وذلك في قوله عزًّ وجل: “أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ” [الحج: 65]. وكما هو واضح، فإن ثمة علاقة ارتباطية بين “الْفُلْكَ”، كمثال ذي دلالة، من حيث إنها “تَجْرِي فِي الْبَحْرِ”، وبين تسخير “مَا فِي الْأَرْضِ” كـ”سُنَّة” إلهية عامة.
سُنَّة الحركة هذه، تتبدى بوضوح عبر أكثر من موضع، من آيات التنزيل الحكيم؛ إذ، لنا أن نلاحظ، كمثال، قوله سبحانه وتعالى: “إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ” [الأعراف: 54].
هنا، يتأكد لدينا أن قوله سبحانه: “يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا” [الأعراف: 54]، يأتي ليؤشر إلى هذه “الحركة”. إذ، إن “يُغْشِي” تدل على تغطية شيء بشيء؛ أما “يَطْلُبُهُ حَثِيثًا” فيدل على الحركة السريعة، من حيث إن “الحث: هو الجِد في الإعجال”. ولعل التأكيد على هذه الحركة، يتبدى، كمثال آخر، عبر قوله عزَّ وجل: “لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ” [يس:40].
“الْبَحْرَ” و”الْفُلْكَ”
أما من جهة “الْبَحْرَ”، فقد ورد مصطلح تسخير “الْبَحْرَ”، متواكبًا مع ورود مصطلح “الْفُلْكَ”، في موضعين اثنين من آيات التنزيل الحكيم..
الأول، في قوله سبحانه: “اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” [الجاثية: 12]؛ حيث تؤكد الآية الكريمة على الارتباط بين تسخير “الْبَحْرَ”، وبين جريان “الْفُلْكَ” فيه؛ بل، إن هذا الجريان وذلك التسخير يأتيان في الإطار العام للتسخير الإلهي لكل “مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ”، وهو ما يتأكد من خلال السياق الذي ترد فيه الآية الكريمة، مع الآية التي تليها، في قوله تعالى: “وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” [الجاثية: 13].
أما الموضع الآخر، فهو قوله سبحانه وتعالى: “وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” [النحل: 14].
وهنا، لنا أن نشير إلى بعض الملاحظات، بخصوص هذه الآية الكريمة..
أولًا: العلاقة بين مفتتح الآية الكريمة، وخاتمتها؛ إذ، إن المفتتح يُشير إلى تسخير البحر “وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ”، وأن الخاتمة، خاتمة الآية، تُشير إلى الأمر الإلهي “وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ”. ولعل مُبرر هذه العلاقة بين التسخير والشكر، يتضح من خلال أهم دلالات تسخير البحر، تلك التي تتمثل، بحسب سياق الآية، في: “لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا”، حيث تتبدى “لام” التعليل في “لِتَأْكُلُوا مِنْهُ”.. ثم، من خلال التعبير القرءاني “وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا”.
وهنا، تتبدى الحركة العطفية للتأكيد على دلالات تسخير البحر، عبر السياق “لِتَأْكُلُوا مِنْهُ… وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ”؛ ولن نُطيل، هنا، بخصوص الخلاف بين الفقهاء حول “حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا”، أي اللولؤ وغيره مما يتم استخراجه من “الْبَحْرَ”؛ هل هي لكل الناس، رجالًا ونساءً، أم هي لـ”النساء” فقط؛ إذ، إن سياق الآية واضح.
ثانيًا: لنا أن نلاحظ التعبير القرءاني: “وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ”؛ حيث التأكيد على دلالة أخرى من دلالات تسخير البحر؛ وفي الوقت نفسه، دلالة على سُنَّة الحركة. فأصل الـ”مخر”، هو “شق الماء بصوت عن اتجاهين مختلفين”؛ و”مخرت” السفينة، تمخر (بالفتح)، وتمخر (بالضم)، مخرًا ومخورًا فهي ماخرة (مفرد مواخر)، إذا “جرت تشق الماء مع صوت”.
أما “الْفُلْكَ” فهي “السفن ذات الاستدارة العالية”؛ حيث إن دلالة لفظ “فلك” تُشير إلى الاستدارة، أو المسارات الدائرية، سواء في مفردها “فَلَك” (بفتح أوله وثانيه)، أو في صيغة الجمع “فُلْك” (بضم أوله وسكون ثانيه).
ولعل هذا يتأكد، عبر موضعين اثنين من آيات التنزيل الحكيم، ورد فيهما لفظ “فَلَك” في صيغة المفرد، مع لفظ “يَسْبَحُونَ”، للدلالة على “حركة في مسار دائري”.. وذلك، عبر صيغة “كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ”.. في قوله سبحانه: “وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ” [الأنبياء: 33].. وفي قوله تعالى: “وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ٭ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ٭ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ٭ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ” [يس: 37-40].
إضافة إلى هاتين الملاحظتين، هناك أيضًا أكثر من ملاحظة.. سنحاول تبيانها في الحديث القادم، بإذن الله سبحانه وتعالى.