رؤى

الكاتب الصحفي والمحرر الصحفي.. ملاحظة على هامش هموم العاملين بصناعة الرأي

ليست لمرة واحدة بل لمرات. وفي كل مرة كنت أسأل نفسي لماذا يفعلون معي ذلك؟ ليس في صحيفة واحدة وإنما مع أكثر من صحيفة. كنت أكتب المقال وأتعب عليه. أختار فكرته بقدر ما في طاقتي من دقة، وأضع عنوانه بحرص، وأحدد عناصره بعناية، وأنتقي كلماته بدقة، وأرتب عباراته بصبر. أضع الفواصل والنقاط فيه بعناية ولهدف. أبتعد فيه تماما عن الإساءة والإثارة، لأن التجريح الشخصي والهجوم على الناس ليسا من مقومات المقال السليم. ألتزم فيه بمناقشة الرأي وليس التعرض لصاحبه. أعرف تماما وأنا أكتبه أن المحرر الذي سيراجعه، يقف تحت سقف رقابي لا يستطيع أن يتخطاه. ولهذا أحاول قدر إمكاني أن أيسر عليه؛ حتى لا يعمل من ناحية قلمه بكثرة في مقالي، وحتى لا يتحمل من ناحية أخرى لوما بسببه.

وكنت أفترض إن رغب المحرر في استعمال قلمه في مقال لي أن يعود إليّ، ولكل كاتب مقال لكي يوضح له لماذا يغير عنوانا، أو يُلغي فقرة، أو يستبدل كلمة، أو يشطب سطرا، أو يعيد صياغة عبارة، أو يضم جملا قصيرة في واحدة طويلة، وهكذا. وأفترض في ذلك أن المحرر شريك للكاتب في خروج المقال إلى الناس، وأن الاثنين يعملان معا في صناعة الرأي، وهي صناعة مركبة تحتاج إلى شركاء لا فرقاء. لكن ظنوني خابت مرارا، عندما رأيت بعض المحررين، يتعاملون مع ما أكتب على السجية، فيفعلون بالمقال ما يشاءون. يقص بعضهم منه كأنه يقتص منه. يغير عنوانه بلا تنبيه، وكأنه صاحب المقال وكاتبه ومبدئ فكرته. يعيد ترتيب أفكاره فيقلب المقدمة خاتمة والخاتمة مقدمة. يبالغ في تحسسه الرقابي من بضع كلمات تعتبر في تخصصي المعرفي طبيعية؛ فيشطبها ليختل المعنى.

وكنت أسأل نفسي لماذا يفعل بعض المحررين ذلك. وكنت أعطيهم العذر في بعض الحالات. لكني لا أجد لهم عذرا في حالات أكثر. أنا لست ضد المحرر الصحفي أبدا، بل بين من يرون أن وظيفته من أهم الوظائف وأن ما يقوم به قيّم ومطلوب وضروري. كما لدي قناعة بأن محرري المقالات الصحفية شركاء لكتابها في صناعة الرأي. فبفضلهم تخرج المقالات إلى الجمهور في أرقى درجة سواء في طريقة صفها وعرضها، أو في الصور المصاحبة أحيانا لها، أو في العناوين الفرعية التي تتخللها، وبالطبع في خلوها من الأخطاء النحوية والإملائية والعبارات الغامضة، وفي كل ما يجعل المقال، يصل إلى من يهتم به من القراء على أتم وجه ممكن.

المحرر الصحفي شريك للكاتب الصحفي وليس بديلا عنه. عليه أن يراجعه لا أن يلغي وجوده، أن يتواصل معه لا أن يستقل عنه، أن يعرض عليه التغييرات التي يقترحها، لا أن يفرضها عليه؛ فيفاجأ الكاتب بمقال لا يمثله. ولا أطالب هنا أبدا بأن يعود المحرر الصحفي للكاتب في كل صغيرة وإلا لتعطل العمل. فالأخطاء الإملائية والنحوية -مثلا- يحق للمحرر أن يتعامل معها مباشرةً، دون العودة إلى الكاتب. أما الأمور الكبيرة مثل العناوين والعبارات التي قد يرى المحرر أنها تمس مقدسات أو تتسبب في حساسيات، فعليه أن يعود بشأنها إلى الكاتب يتشاور معه قبل أن يغيرها. بل حتى في بعض الأمور الصغيرة، قد يتوجّب على المحرر أن يعود إلى الكاتب إن رآه يكررها، إما لينبهه إليها أو ليعرف منه القصد من وراء استعمالها.

لكن مبدأ الشراكة هذا لا يبدو راسخا لدى بعضٍ ليس قليل من المحررين، كما لا يقتنع به قطاع من الكتاب. بعض الكتاب نرجسيون، يعتقدون أن ما يكتبونه نهائي وغير قابل للمراجعة. وهذا خطأ. وبعض المحررين مبالغون يتصورون أن المقال طالما وقع تحت أيديهم، يصبح لهم حق فيه تماما مثل صاحبه. وهذا أيضا خطأ.

لا هذا ولا ذاك يُعبّر عما تجب أن تكون عليه العلاقة، بين طرفين يشتغلان بصناعة الرأي. وهي علاقة يحكمها -حتى الآن- في كثير من مؤسساتنا الصحفية العربية نموذجان، كلاهما في تقديري خاطئ. النموذج الأول “نموذج المندوب” delegate model وبموجبه يفترض كاتب المقال أن المحرر الصحفي مندوب عليه أن يحول المادة التي يرسلها إليه دون أي تغيير مباشرة إلى المطبعة. وهذه عجرفة يظهرها بعض الكُتّاب لأن المحرر ليس جسرا (كوبري) أو ساعي بريد أو مراسل تتلخص مهمته في نقل المقال من الكاتب إلى المطبعة. والنموذج الآخر “نموذج المستأمن” أو “المفوض” trustee model وفي ظله يظن المحرر أن لديه تفويضا يؤهله لفعل ما يشاء، وأن المقال متى وصله أصبح في يد كاتب جديد، من حقه أن يتصرف فيه، فيعدّل ملامحه بحسب رؤيته. وهذه عجرفة أخرى؛ لأن المقال ليس غنيمة ولا الكاتب “هفية” إذا جاز التعبير.

لا هذا النموذج سليم ولا ذاك. السليم هو تشارك الكاتب والمحرر في الرأي قبل أن يخرج المقال إلى النور. على الكاتب أن يعذر المحرر؛ فيتفهم ضغوط الرقابة المفروضة عليه من داخل مؤسسته الصحفية ومن خارجها، وأن يستوعب كذلك ما يفعله بعض المحررين عندما يمارسون على أنفسهم رقابة ذاتية يسحبونها على الكُتّاب في أمور لا تطالب بها مؤسسات الرقابة ذاتها. في المقابل يتعين على المحرر الصحفي أن يستوعب أن المقالات كالممتلكات، ليست له وإنما لغيره، لا يجوز التصرف فيها إلا بإذن من أصحابها.

وبكل أسف، وبسبب غياب الشراكة بين الطرفين، وقلة استيعابهما لدوريهما، وتراجع اهتمامهما بالاستماع لبعضهما؛ تظهر صعوبة جديدة تُضاف إلى صعوبات صناعة الرأي العاتية في منطقتنا. فبدلا من أن يتناقش كُتّاب المقالات مع رؤساء التحرير والمحررين حول موضوع المقال لإثراء الفكر- ونقاشهما هذا بالمناسبة شرط لصناعة ناجحة للرأي- يجدون أنفسهم غارقين في تلاوم حول دس كلمة أو مصير نقطة، أو وضع كسرة أو فاصلة أو ضمة وكل ما يعرف بالترهات الصحفية journalistic persnickety.

د.إبراهيم عرفات

أستاذ العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock