رؤى

أسس المنهج المعرفي عند عبد الوهاب المسيري.. قراءة في الفكر العربي المعاصر (5-5)

يرى عبد الوهاب المسيري أن التحيز في المصطلح تحيز مزدوج، تحيز سياقه، وتحيز من صاغه. ولهذا فإن المصطلحات التي نستوردها “سُكَّتْ” في العالم الغربي بعناية بالغة تنبع من تجارب تاريخية ونماذج تحليلية ورؤى معرفية ووجهات نظر غربية ومرتبطة بسياقها الحضاري الذي نشأت فيه. ويدعو إلى تنقية المعجم المصطلحي والمفهومي المتداول منذ القرن التاسع عشر وإنشاء، وتوليد مفاهيم بديلة تعبر عن حقيقة الرؤى التي نحملها ونبشر بها وتحررنا من تحيزات الحضارة الغربية.

أما منهجية بناء هذه المفاهيم وتوليدها فتبدأ عنده بالدعوة إلى إلغاء الاعتماد على الترجمة للأسماء والأشياء ومعانيها، والنظر إلى الظاهرة في سياقها، بحيث يُدرس المصطلح الغربي الذي يشير إليها في سياقه الأصلي دراسة جيدة، والتعرف على مدلولاته، ومحاولة توليد المصطلح من داخل المعجم العربي، بحيث لا يكون ترجمة حرفية دون أن يعنيَ ذلك انغلاقا على الذات، لأن الانفتاح الحقيقي هو عملية تفاعل مع الآخر نأخذ منه ونعطي ونبدع من خلال معجمنا؛ لأن الإبداع من خلال معجم الآخر مستحيل.

لذا يرى ضرورة تفعيل المعجم العربي حتى نتمكن من توليد معارفنا ومناهجنا واكتساب القدرة على التواصل والتعبير عن هويتنا الحضارية، فمن الظواهر ما لا يمكن التعبير عنها بواسطة النماذج المستوردة بسبب حدودها الإدراكية.

ويعتقد المسيري أنه عندما نتمكن من تحقيق الجهد التفكيكي النقدي الإبداعي للنموذج المعرفي الغربي، وتوضيح هويته وإعادة تركيبه، وزيادة القدرة التوليدية للنموذج البديل، وتحول الغرب إلى مركز من المراكز، سننظر إلى الغرب بدون قلق ودون مركب نقص، ليس كما فعل ويفعل دعاة التغريب، وإنما يمكننا دراسته كمتتالية حضارية تتسم بما تتسم به من سلبيات وإيجابيات، ونتعامل معه برؤية نقدية إبداعية منفتحة ووفق قيمنا الحضارية. ما قدمناه من جهد لهذه المحاولة لا يعني أن الأمر قد صفي نهائيا، بل هي محاولة جريئة تنتظرها محاولات أكثر جرأة في إطار عمل مؤسساتي يحتضن الأفكار، ويُمكّن لها في مؤسسات المجتمع. تلك مشكلة المشاريع الفكرية في عالم العرب والمسلمين. لكن يكفي أن أفكار الرجل أعادت ترتيب كثير من القضايا على المستوى المنهجي ونفثت نفسا جديدا في العقل العربي المسلم، وقدم جهدا متميزا في منهجية بناء المعرفة، من خلال مفهوم مركزي في مشروعه الفكري، هو مفهوم التحيز، وإعادة تشكيل العقل العربي، من عقل تراكمي اختزالي إلى عقل تركيبي اجتهادي بنائي توليدي (عبد الله أخواض، 2022، ص: 183-184).

من خلال ما تقدم نستطيع القول إن المسيري بوصفه مفكرا كبيرا مبدعا قدم لنا رؤية فاعلة للمنهج، تتجاوز الأطر المادية الغربية الضيقة والمحدودة، وذلك من خلال محاولته الوصول للنماذج كمنهج لتحليل الظواهر الإنسانية والاجتماعية المختلفة، الذي يعتبر فتح جديد، من قِبله في الدراسات المنهجية للظواهر الإنسانية والاجتماعية في السياق العربي – الإسلامي، ويتجلى لنا تميزها (النماذج) من خلال المعاني التي حاول إضفاءها، على هذه المحاولات الجادة، والتي تستقي معينها من مرجعية عربية إسلامية.

إن أهمية المنهج لتحليل الظاهرة الإنسانية، وذلك للتوصل إلى تفسيرها، يستمد ضرورته من التراجع والجمود في الحضارة العربية الإسلامية، والتقليد الحاصل في منهج البحث عند العديد من المفكرين العرب والمسلمين، ثم من الهيمنة المادية الغربية الحديثة والمعاصرة وعدم تفريقها بين الإنسان والطبيعة (المادة)، فالاهتمام بالإبداع في المنهج في السياق العربي الإسلامي، كفيل بالتوصل إلى نتائج إيجابية في دراستنا لمشكلاتنا وفق خصائصنا وطبيعة مجتمعاتنا، وهو ما من شأنه أن يجعلنا فاعلين لا منفعلين بمنجزات الغرب الحضارية في مختلف الميادين، وبالخصوص في المنهجية منها.

 وفي النهاية تبقى محاولات المسيري، للتوصل للنماذج كمنهج في التحليل دربا ونبراسا وإنجازا جديدا، ليحتذي به كل عقل عربي مسلم يتطلع للبحث والإبداع في المنهج.

– المراجع المعتمدة:

– عبد الوهاب المسيري: الثقافة والمنهج، تحرير: سوزان حرفي، دار الفكر، دمشق، ط2، 2010.

– عبد الوهاب المسيري: دراسات معرفية في الحداثة الغربية، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط1، 2006.

– عبد الوهاب المسيري: الحداثة وما بعد الحداثة، دار الفكر، دمشق، ط3، 2010.

– عبد الوهاب المسيري: إشكالية التحيز (رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد)، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، أمريكا (فيرجينيا)، ط2، 1996.

– عبد الوهاب المسيري: فكر حركة الاستنارة وتناقضاته، نهضة مصر، القاهرة، ط1، 1998.

– عبد الله أخواض: الفكر العربي المعاصر: من فوضى التأسيس إلى الانتظام المنهجي، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط1، 2022.

– شاكير أحمد السحمودي: مناهج الفكر العربي المعاصر في دراسة قضايا العقيدة والتراث، مركز التأصيل للدراسات والبحوث، السعودية (جدة)، ط1، 2010.

– عمر شريف: ثمار رحلة عبد الوهاب المسيري (قراءة في فكره وسيرته)، فرست بوك للنشر والتوزيع، القاهرة، ط3، 2014.

– رؤوف مخلوفي: النماذج كمنهج للتحليل: عبد المسيري أنموذجا، مجلة مقاربات فلسفية، المجلد: 10، العدد: 01، الجزائر، مايو 2023.

– عبد الله إدالكوس: النماذج التفسيرية: دراسة في الأدوات التحليلية لعبد الوهاب المسيري، موقع الملتقى الإلكتروني، 22-09-2008.

https://www.almultaka.org/site.php?id=661

حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة قسم علم الاجتماع - كلية الآداب في جامعة ماردين - حلب سابقاً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock