فن

صوت وصورة.. وبؤس التكنولوجيا!

عندما كتب الفرنسي بيير جوزيف برودون كتابه فلسفة البؤس عام 1846، رد عليه كارل ماركس في العام التالي بكتاب بؤس الفلسفة، مفندا حجج اللاسلطوي الفرنسي الاقتصادية والفلسفية حول نظام التناقضات الاقتصادية، بعد ذلك بأكثر من مئة عام كتب كارل بوبر كتاب بؤس الفلسفة ناقدا الآراء القائلة بوجود “قوانين” يسير التطور التاريخي وفقا لها.

وإذا كان العصر الأخير للتكنولوجيا قد قارب على أن يتم ثلاثة أرباع القرن- فقد صار لزاما علينا -نحن مستخدمو تلك التكنولوجيا وضحاياها- أن نتناول بالبحث الجاد ما جرّته علينا التكنولوجيا من منافع وما جلبته لنا من أضرار؛ حتى صرنا منها في حال هي أقرب إلى البؤس.. ليس بفعل ما أنتجته التكنولوجيا من أسلحة أودت بحياة الملايين فحسب، بل أيضا هذه السيطرة التامة التي تمارسها على عقولنا عبر وسائلها “السهلة” التي صارت متاحة للجميع، وما ينجم عن تلك السهولة من تحويل حياة الناس إلى واقع افتراضي، وكلأ مباح بحثا عن “الترند” الذي يجذب الانتباه لأيام؛ ثم يذهب طي النسيان ليحل محله آخر، وهكذا حتى تُسلمنا تلك الدائرة الجهنمية للجنون.

على مدى أكثر من شهر انشغل متابعو الدراما التليفزيونية منذ منتصف أكتوبر الماضي، بمشاهدة مسلسل “صوت وصورة” للمخرج محمود عبد التواب، والمؤلف محمد سليمان عبد المالك ومن بطولة حنان مطاوع وصدقي صخر ووليد فواز وفدوى عابد وعمرو وهبه ونجلاء بدر ورامي الطنباري ومنير مكرم… وآخرين.

دارت الأحداث حول جريمة قتل سقط ضحيتها طبيب تجميل ليس فوق مستوى الشبهات.. أصابع الاتهام طالت عددا من شخصيات القصة على رأسهم رضوى التي عملت لفترة وجيزة لدى المجني عليه في عيادته، وتعرضت للتحرش على يديه وتقدمت ببلاغ ضده، وذهبت إلى المحكمة لكنها لم تظفر بشيءٍ يرد لها بعضا من كرامتها المهدرة.. ويتطوع المحامي لطفي عبود العائد من العزلة للدفاع عن رضوى، ليقينه بأن المجنى عليه الذي كان على خلاف سابق معه استحق مصيره، ولا يجب أن تدفع رضوى الثمن مرتين من كرامتها وسمعتها وعمرها.. ينجح المحامي في الجولة الأولى من المحاكمة في إسقاط كل الأدلة التي تدين موكلته، عن طريق التشكيك باستخدام التكنولوجيا، ليدخل آخرون دائرة الاتهام.. وتخرج رضوى مؤقتا لتقتحم عالم السوشيال ميديا بعد أن صارت ترند.. ومع تصاعد الأحداث تتسرب حالة اللايقين التي حدثت عقب إسقاط الأدلة بالتكنولوجيا الحديثة للجميع، فليس هناك أمر يمكن القطع به في ظل وجود برامج مثل Deepfake Studio التي تستطيع أن تضع القاضي نفسه في مسرح الجريمة وقت وقوع الحادث!

يراجع أشخاص القصة أنفسهم بدءا من رضوى التي انقلبت حياتها رأسا على عقب لأنها رفضت التحرش وأصرت على أخذ حقها.. تتساءل رضوى ماذا لو صمتت كما تفعل الكثيرات؟! هل كان لزاما عليها أن تصرخ وتزعج العالم الذي ينام فوق أجساد ملايين الضحايا دون أن أدنى شعورٍ بوخز الضمير؟ المحامي أيضا وضعته القضية على أكثر من محك مختبرة صبره وتمسكه بمبادئه.. لكنه انتهى إلى وضع شبه مأساوي لا ذنب له فيه.. في المقابل هربت المحامية الشرسة ذات الضمير الميت ماجدة علوان من مصر بعد أن جرّت عليها القضية، فتح ملفاتها القديمة التي تدينها بجرائم لا قدرة لها على تبرئة نفسها منها.

بعد ظهور الحقيقة التي لم يكن يتوقعها أحد بالطبع والتي لم تعجب حبكتها كثيرا من متابعي الدراما، وبعد المصير المؤلم الذي لقيه زوج رضوى السابق عبد الغني الذي تحول إلى متسول ثم إلى مجذوب ينام على أرصفة الشوارع دون مبرر درامي لذلك؛ خاصة وأن الصديقة الحقودة الخائنة سعاد لم تلق أي عقاب، ولو عقاب بسيط عن إخفائها المتعمد للأدلة ومحاولتها التكسب منها، ومع ابتعاد لطفي عن رضوى بوصفها “أجمل شيء لم يحدث له”؛ حيث لن تسمح ظروفهما بالارتباط لاعتبارات عديدة؛ لن يصمد أمامها حبهما الذي وُلِدَ في ظروف غير طبيعية- بعد كل ذلك بقيت التكنولوجيا ذلك الوحش الذي اختطفنا جميعا؛ تمسك بتلابيبنا ويبدو أنها لن تفلتنا في القريب، سنبقى أسرى لها ما دامت تفاصيل حياتنا قد صارت مرتبطة بها على هذا النحو.. برغم اعترافنا أنها أورثتنا كثيرا من البؤس، واقتحمت حياتنا بصورة غير مسبوقة مُحدثة فوضى عارمة وضياعا وخواء بلا نظير- إلا أن التحرر منها صار أمرا من الصعوبة بمكان، فحتى البكاء على “الزمن الجميل” بكل تفاصيله الرائعة، ما هو في الحقيقة إلا “أوبشن” تتيحه لنا الآن التكنولوجيا المتهمة؛ لكن بجودة فائقة!

 

 

 

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock