في محاولتنا الاستمرار في الحديث عن إحدى أهم الظواهر الدلالية في الرسم القرءاني، يأتي حرف “الألف” مؤشرا دلاليا إلى اختلاف دلالة المصطلح باختلاف الرسم القرءاني لهذا الحرف؛ ففي حال التثبيت، يأتي الألف للدلالة على الجانب المادي العضوي؛ وأما في حال لم يثبت الحرف، يدل المصطلح على الجانب المعنوي الوظيفي.
وكنا قد تناولنا في أحاديث سابقة، عددًا من الأمثلة على هذا الحرف؛ مثل محاولة تحديد الفارق الدلالي بين “طَآئِفٞ” و”طَٰٓئِفٞ” وأيضا بين “شَاهِدٞ” و”شَٰهِدً” ثم بين “طَغَا” و”طَغَىٰ”.
وفي الحديث الأخير، وعبر محاولة الاقتراب من الفارق الدلالي بين “عِبَٰدُ” و”عِبَادٌ”، وصلنا إلى أن الاختلاف بين تثبيت حرف الألف وعدم تثبيته، في كلٍ منهما، يأتي ليؤشر إلى الاختلاف الدلالي بينهما؛ وهو ما يتأكد عبر المقارنة بين عدم تثبيت حرف الألف في مصطلح “عِبَٰدُ ٱلرَّحۡمَٰنِ”، وتثبيته في المصطلح نفسه “َعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ”.
إذ يدل المصطلح في صورته الأولى “عِبَٰدُ ٱلرَّحۡمَٰنِ” على الجانب الوظيفي، أو الجانب المعنوي الوظيفي للمصطلح القرءاني؛ كما في قوله سبحانه: “وَجَعَلُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمۡ عِبَٰدُ ٱلرَّحۡمَٰنِ إِنَٰثًاۚ أَشَهِدُواْ خَلۡقَهُمۡۚ سَتُكۡتَبُ شَهَٰدَتُهُمۡ وَيُسۡـَٔلُونَ” [الزخرف: 19]. هذا في حين يدل المصطلح في صورته الأُخرى “َعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ”، على الجانب المادي العضوي للمصطلح القرءاني؛ كما في قوله تعالى: “وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنٗا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمٗا” [الفرقان: 63].
وفي آيات الذكر الحكيم، أكثر من مثال على ظاهرة حرف “الألف” بوصفه مؤشرا دلاليا، على الاختلاف، في المصطلح القرءاني الواحد، باختلاف الرسم القرءاني للحرف.
ورد مصطلح “ٱلۡأَمَانَةَ” في صيغة المُفرد مرتين في آيات الذكر الحكيم؛ الأولى ورد المصطلح في صورة تثبيت حرف الألف “ٱلۡأَمَانَةَ”، كما في قوله سبحانه: “إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا” [الأحزاب: 72]. ولأن الأمانة ضد الخيانة، وتتعلق بالتصديق، أي تتعلق بـ”الصدق والإخلاص في فعل الشيء”؛ لذا يُمكن تعريفها -دلاليًا- بأنها “كل حق لزم حفظه وأداؤه”.
من هذا المنظور، ومن حيث إنها “حَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُ” فهي إذن، تختص بكافة الحقوق المُترتبة على تعمير الأرض كـونها “مُهمة واجبة” على الإنسان أن يؤديها؛ وذلك كما في قوله سبحانه وتعالى: “وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا فَٱسۡتَغۡفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٞ مُّجِيبٞ” [هود: 61].
ثم، لنا أن نُلاحظ في قوله سبحانه: “فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا”، أن إباء “ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ”، لم يكن كإباء إبليس في قوله تعالى: “وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ ٭ فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ ٭ فَسَجَدَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ كُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ ٭ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰٓ أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّٰجِدِينَ” [الحجر: 28-31]؛ وذلك لأكثر من سبب.
من هذه الأسباب، أن “أمر السجود” كان فرضًا “فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ”، في حين أن “الأمانة” كانت عرضًا “إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ”؛ ومنها أيضا أن الإباء بالنسبة لإبليس كان استكبارًا، بدليل قوله سبحانه: “قَالَ يَٰٓإِبۡلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ ٱلسَّٰجِدِينَ ٭ قَالَ لَمۡ أَكُن لِّأَسۡجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقۡتَهُۥ مِن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ” [الحجر: 32-33]؛ في حين أن الإباء في حال “ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ”، كان استصغارًا ومخافةً بدليل قوله تعالى: “وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا”؛ ولعل ذلك نفسه، يوضح كيف أن خاتمة الآية الكريمة جاءت للتأكيد على صيغ المبالغة، في أن الإنسان “كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا”.
إذ إنه كان “ظَلُومٗا” لنفسه، من حيث إن الظلم هو “وضع الشيء غيرَ موضعه تعدِّيًا”؛ وإن كنا نُفضل تعريف الظلم -دلاليًا- بأنه “جور وعدوان على حق الآخر” والآخر هنا هو الإنسان ذاته؛ فضلا عن إنه كان “جَهُولٗا” بما لهذه الأمانة من تبعات عليه أن يتحملها، وحقوق واجبة عليه أن يؤديها.
هذا، عن ورود مصطلح “ٱلۡأَمَانَةَ” في صيغة المُفرد، في المرة الأولى التي ورد فيها المصطلح، مع تثبيت حرف الألف، للدلالة، كما يُؤكد السياق في الآية الكريمة [الأحزاب: 72] على الجانب المادي العضوي؛ كما يتبدى بوضوح من خلال قوله عزَّ وجل: “إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ…”. إذ المعروض هنا هو الجانب المادي العضوي للشيء “ٱلۡأَمَانَةَ”؛ من حيث إن المعروض عليهم هم “ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ”.
أما في المرة الثانية، فقد ورد المصطلح في صورة عدم تثبيت حرف الألف، ومنسوبًا إلى “ٱلَّذِي ٱؤۡتُمِنَ”، أي على الصورة “أَمَٰنَتَهُۥ”؛ كما في قوله تعالى: “وَإِن كُنتُمۡ عَلَىٰ سَفَرٖ وَلَمۡ تَجِدُواْ كَاتِبٗا فَرِهَٰنٞ مَّقۡبُوضَةٞۖ فَإِنۡ أَمِنَ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا فَلۡيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤۡتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥۗ وَلَا تَكۡتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَۚ وَمَن يَكۡتُمۡهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٞ قَلۡبُهُۥۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ” [البقرة: 283]. وعبر هذه الآية الكريمة، يتأكد أن مصطلح “أَمَٰنَتَهُۥ”، في حال عدم تثبيت حرف الألف، يدل على الجانب الوظيفي للمصطلح، بدليل حركة العطف بين مصطلح “أَمَٰنَتَهُۥ” المعطوف عليه، والمعطوف وهو “لۡيَتَّقِ”؛ حيث تأتي حركة العطف هذه للربط الدلالي بين مصطلحين يعبران عن الجانب الوظيفي لكل منهما.
أما مصطلح “ٱلۡأَمَٰنَٰتِ” فورد في صيغة الجمع (جمع المؤنث السالم) في أربعة مواضع من آيات الذكر الحكيم؛ حيث وردت في هذه المرات الأربع بدون تثبيت حرف الألف، للدلالة على الجانب المعنوي الوظيفي للمصطلح؛ بل ولم تأت في أي موضع مع تثبيت الحرف، في كتاب الله الكريم.
ففي قوله سبحانه: “إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا” [النساء: 58]؛ لنا أن نُلاحظ أن المصطلح القرءاني “ٱلۡأَمَٰنَٰتِ”، يأتي على هذه الصورة للدلالة على الجانب الوظيفي للمصطلح؛ بدليل الأمر الإلهي: “أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ”، حيث “الأداء” دلالة على الجانب الوظيفي؛ وأيضًا، بدليل حركة العطف الواردة في السياق ذاته، حيث المصطلحات كلها تأتي للدلالة على الجوانب الوظيفية، نعني قوله تعالى: “وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ”.
كذلك، في قوله سبحانه: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ” [الأنفال: 27]؛ يتأكد لدينا أن مصطلح “أَمَٰنَٰتِكُمۡ” يأتي على هذه الصورة، من الرسم القرءاني، للدلالة على الجانب الوظيفي؛ حيث إن السياق “لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ”، دال في هذا الإطار.
وفي نفس الإطار كذلك يأتي التعبير القرءاني “وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِأَمَٰنَٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَٰعُونَ”، الذي ورد مرتين في آيات التنزيل الحكيم، للدلالة على الجوانب الوظيفية، والمعنوية، للمصطلحات القرءانية الواردة في سياقه.
ففي قوله سبحانه: “وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِأَمَٰنَٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَٰعُونَ” [المؤمنون: 8]؛ لنا أن نُلاحظ السياق، الذي ورد في إطاره التعبير القرءاني، في قوله تعالى: “قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٭ ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ ٭ وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَنِ ٱللَّغۡوِ مُعۡرِضُونَ ٭ وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِلزَّكَوٰةِ فَٰعِلُونَ ٭ وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ ٭ إِلَّا عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَيۡرُ مَلُومِينَ ٭ فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ ٭ وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِأَمَٰنَٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَٰعُونَ ٭ وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَوَٰتِهِمۡ
يُحَافِظُونَ ٭ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡوَٰرِثُونَ ٭ ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلۡفِرۡدَوۡسَ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ” [المؤمنون: 1-11]؛ حيث إن السياق دال على عددٍ من الجوانب الوظيفية، والمعنوية، من قبيل مصطلحات قرءانية مثل: “أَفۡلَحَ… خَٰشِعُونَ… مُعۡرِضُونَ…”.
أيضًا، في قوله سبحانه: “وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِأَمَٰنَٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَٰعُونَ” [المعارج: 32]؛ لنا أن نُلاحظ السياق، الذي ورد في إطاره التعبير القرءاني، وذلك في قوله تعالى: “إِلَّا ٱلۡمُصَلِّينَ ٭ ٱلَّذِينَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ دَآئِمُونَ ٭ وَٱلَّذِينَ فِيٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ حَقّٞ مَّعۡلُومٞ ٭ لِّلسَّآئِلِ وَٱلۡمَحۡرُومِ ٭ وَٱلَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوۡمِ ٱلدِّينِ ٭ وَٱلَّذِينَ هُم مِّنۡ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشۡفِقُونَ ٭ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمۡ غَيۡرُ مَأۡمُونٖ ٭ وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ ٭ إِلَّا عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَيۡرُ مَلُومِينَ ٭ فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ ٭ وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِأَمَٰنَٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَٰعُونَ ٭ وَٱلَّذِينَ هُم بِشَهَٰدَٰتِهِمۡ قَآئِمُونَ ٭ وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ يُحَافِظُونَ ٭ أُوْلَٰٓئِكَ فِي جَنَّٰتٖ مُّكۡرَمُونَ” [المعارج: 21-35]؛ حيث إن السياق دال على عددٍ من الجوانب الوظيفية، والمعنوية، من قبيل مصطلحات قرءانية مثل: “دَآئِمُونَ… مُّشۡفِقُونَ… لِّلسَّآئِلِ وَٱلۡمَحۡرُومِ…”.
وللحديث بقية.
