في الخريطة السياسية العربية والإقليمية، وضمن نقاط تقاطع الاستراتيجيات الدولية، تحظى سوريا بمكانة جيوسياسية مهمة؛ ما جعل منها ساحة تفاعلية لمصالح عدد من القوى الدولية والإقليمية، التي تتصارع على أراضيها. ونتيجة لهذا لا تتوقف التغيرات الحاصلة في الأوضاع السياسية والاجتماعية في سوريا عند الحدود السورية؛ بل يتمدد تأثيرها إلى محيطها الجغرافي العربي والإقليمي.
وقد انقضى أو يكاد عام 2023، ولا تزال الأزمة السورية ضمن أبرز الأزمات في المنطقة العربية، ومحيطها الشرق أوسطي؛ إلى الدرجة التي تستهل فيها هذه الأزمة العام الجديد، 2024، بمجموعة من المسارات والتوجهات على كافة المستويات، الداخلية والإقليمية والدولية، والعربية أيضا، التي تتفاعل في ما بينها لتُشكل نقاطا جيوسياسية مهمة في مستقبل هذه الأزمة.
تتعدد التداخلات الخارجية -الدولية والإقليمية- على الأرض السورية، بالشكل الذي ساهم في التأثير على مسارات وتوجهات الأزمة.. وذلك كما يلي:
فمن جهة، هناك تداعيات التنافس والتصارع بين القوى الإقليمية؛ فمنذ اندلاعها في عام 2011، كانت الأزمة في سوريا مدخلا للثلاثي الإقليمي، تركيا وإيران وإسرائيل، في التنافس والتصارع على الأرض السورية.
فمن حيث تركيا، فهي تواصل السعي للسيطرة على الشمال السوري، ومحاولة فرض منطقة آمنة على الحدود المشتركة لها مع سوريا؛ بل إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كان قد استغل الأزمة السورية كورقة داعمة له في الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في مايو الماضي؛ وذلك عبر تقديم وعود بتحقيق حل حاسم لقضية اللاجئين السوريين، وهي القضية التي مثلت أحد ملفات الانتقاد الموجه من جانب المعارضة التركية لأردوغان.
أما إيران، فهي تحاول السيطرة على ما تُطلق عليه “الهلال الخصيب”، الذي يُمثل بالنسبة إليها منطقة نفوذ تضم العراق وسوريا ولبنان، إضافة إلى اليمن ومن خلال السعي إلى تصدير الأزمات الخارجية، وعبر محاولة تخفيف الضغوط الداخلية والخارجية عليها، استخدمت إيران الأزمة السورية كورقة ضغط على الغرب عموما، والولايات المتحدة بوجه خاص؛ وذلك باستخدام الاقتراب العسكري المباشر من إسرائيل، عبر عدد من الميليشيات الموالية لها.
ثم تأتي إسرائيل التي تستخدم القوة العسكرية في محاولة استهداف التواجد العسكري الإيراني، على الأرض السورية؛ بل إن الملف السوري، والضربات العسكرية الإسرائيلية لبعض المواقع العسكرية الإيرانية في سوريا، كان أحد المجالات في التنافس بين الأحزاب الإسرائيلية، خاصة مع تصدر المشهد السياسي صعود الأحزاب اليمينية والقومية اليمينية، التي تنادي بضرورة تصفية أية قوة تتبع إيران في سوريا.
ومن جهة أُخرى، هناك إشكاليات التقاطعات الاستراتيجية الدولية؛ حيث يتبدى كيف أن الأطراف الدولية -خاصة روسيا والولايات المتحدة- تحاول توظيف الأزمة السورية.. كلٌ تبعًا لمصالحه الخاصة؛ بما يُساهم في عدد من الإشكاليات المؤثرة على الواقع السوري.
فمن حيث روسيا، فهي تواصل السعي للحفاظ على القاعدة العسكرية لها في طرطوس؛ مع محاولة التواجد المستمر وحماية مصالحها في سوريا من خلال تعزيز بقاء النظام السوري، والحفاظ على الرئيس بشار الأسد حاكما لسوريا؛ بما يُمثله ذلك التواجد المستمر لها، من أهمية لدعم القوات الروسية في أوكرانيا، إضافة إلى أهمية التواجد الروسي بالقرب من الوجود العسكري الأمريكي في العراق، والخليج العربي، فضلا عن التواجد الأمريكي في سوريا نفسها.
أما الولايات المتحدة الأمريكية، فتتعامل مع الأزمة السورية من منظور السعي الدائم للمحافظة على أمن إسرائيل. واللافت أن الولايات المتحدة تنظر إلى سوريا عموما، على أنها المكان الوحيد لتواجد روسيا عسكريا في المنطقة؛ ومن ثم توجهت إلى زيادة تواجدها العسكري في سوريا، للضغط على التواجد الروسي هناك.
هذا إضافة إلى تنامي الدعم العسكري والتنسيق بينها وبين “قوات سوريا الديمقراطية”، بالشكل الذي ساهم في ضعف السيطرة المركزية للحكومة السورية على منطقة الشمال حيث الأكراد فضلا عن تركيا.
أما بالنسبة إلى أوروبا، فهناك محاولة ترسيخ الوجود الأوروبي بوصفه طرفا من أطراف التحكم في مصير الأزمة السورية، وإن كانت المكانة الأوروبية في تفاعلات الأزمة السورية، لم تصل إلى الموقفين الروسي والأمريكي؛ بل ولم تصل حتى إلى تأثير الأطراف الإقليمية.
ثم تأتي الصين التي تلتقي في النظر إلى الأزمة السورية مع روسيا؛ وإن كانت تختلف من حيث الأهداف؛ حيث تسعى الصين عبر التفاعل مع الأزمة السورية، خاصة بالنسبة إلى مواقفها في مجلس الأمن الدولي، إلى جذب سوريا كمحطة بارزة لاستكمال مشروعها الطموح “الحزام والطريق”.
تتقاطع الملامح العربية، في التعامل مع الأزمة السورية، عبر عدد من الخطوات الدالة على الاهتمام والتفاعل، بما لهذه الأزمة من تأثيرات على المحيط العربي.. وذلك كما يلي:
من جانب، تأكيد الحفاظ على وحدة الدولة السورية؛ فمن خلال محاولة البحث عن حلول لإنهاء معاناة الشعب السوري، والحفاظ على وحدة الدولة السورية، تصاعدت دعوات من أطراف عربية متعددة، من بينها مصر والإمارات والجزائر والأردن، لإعادة سوريا إلى محيطها العربي، كخطوة يمكن أن تحد من تداعيات الاستقطابات، الدولية والإقليمية، الجارية على الأرض السورية.
وقد تمثلت محاولات إعادة سوريا إلى المحيط العربي، من خلال زيارات المسئولين العرب إلى سوريا، خاصة في أعقاب زلزال فبراير؛ فضلا عن زيارات الرئيس الأسد إلى أكثر من دولة عربية؛ إضافة إلى حضوره القمة العربية رقم 32، التي عُقدت في المملكة العربية السعودية، في مايو 2023، وذلك بعد غياب سوري عن القمم العربية دام أكثر من 12 عاما.
من جانب آخر، عودة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية؛ ففي ظل تحولات متعددة على الصعيدين الدولي والإقليمي، ومع تصاعد وتيرة أزمات المنطقة العربية، ومناطق تماسها مع محيطها الشرق أوسطي، نجحت مبادرات بعض الدول العربية في عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية؛ هذا رغم انقسام الآراء ما بين مؤيد ومعارض لهذه العودة.
فمنذ الأحد 7 مايو الماضي، لم تعد سوريا منعزلة عن محيطها العربي، حيث أصدر آنذاك اجتماع استثنائي لوزراء الخارجية العرب، عُقد في القاهرة، بيانا جاء فيه “إن باب الجامعة أضحى مفتوحا أمام استئناف الوفود الرسمية السورية، في اجتماعات جميع المنظمات والأجهزة التابعة للجامعة”. وبالتالي أنهيت المقاطعة العربية الرسمية للحكومة السورية؛ تلك التي ساهمت في إبعاد أية وساطة عربية عن الصراع الداخلي في سوريا.
في هذا السياق، يُمكن القول بأن الأزمة السورية ما كان لها أن تُصبح أزمة إقليمية دولية، لولا تدخل مجموعة من الأسباب والعوامل الجيوسياسية، والجيواستراتيجية، ساعدت على تحولها من انتفاضة ضد بعض ممارسات النظام، إلى أزمة إقليمية دولية أكثر منها أزمة سورية.
ومن المُرجح، في ظل عديد من المتغيرات الدولية والإقليمية والعربية، ومن بينها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، أن تواجه الأزمة السورية بعض التداعيات على الداخل السوري، خاصة في ما يتعلق بالصراعات القائمة بين الثلاثي الإقليمي، وامتداداته الدولية.