في رحلتنا مع حرف “الألف”، نؤكد على أن هذا الحرف، يأتي ليُعبر عن إحدى أهم الظواهر في الرسم القرءاني، من حيث اختلاف دلالة المصطلح باختلاف الرسم القرءاني له؛ نعني مجيء اللفظ الواحد مرسوما بألف في موضع، وبغير ألف في موضع آخر. ومن المنطقي أن هذا الاختلاف في “المبنى”، يترتب عليه اختلاف في “المعنى”؛ وبالتالي، تختلف دلالات اللفظ بحسب اختلاف الرسم القرءاني لحرف الألف.
وضمن عديد من الأمثلة على حرف “الألف”، بوصفه مؤشرا دلاليا؛ وإضافة إلى أمثلة مُتعددة، كنا قد تناولناها في أحاديث سابقة، سنحاول في حديثنا هذا الاقتراب من مصطلحات قرءانية أُخرى، تؤشر إلى مدى ما يُمثله هذا الحرف من أهمية دلالية، ضمن سياق آيات التنزيل الحكيم.
مصطلح “ٱلسَّامِرِيُّ”
وردت كلمة “السامري” في التنزيل الحكيم، في سورة واحدة هي سورة “طه”، في مرات ثلاث؛ اثنتان منها وردت مُعرفة بـ”الـ” التعريف، مع تثبيت حرف الألف فيها “ٱلسَّامِرِيُّ”، وفي الثالثة دون هذا التثبيت، وفي صيغة المنادى، وفي الوقت نفسه نكرة “يَٰسَٰمِرِيّ”. ومن ثم، يبدو أن هناك اختلاف دلالي في ما بينهما، تبعًا لكل حالة منهما، إذ يأتي حرف الألف، في حال التثبيت، مؤشرا دلاليا على الجانب المادي العضوي للمصطلح؛ في حين أن عدم تثبيت الحرف، يأتي مؤشرا دلاليا على الجانب المعنوي الوظيفي للمصطلح.
في الحالة الأولى، ورد لفظ “ٱلسَّامِرِيُّ” في قوله سبحانه: “وَمَآ أَعۡجَلَكَ عَن قَوۡمِكَ يَٰمُوسَىٰ ٭ قَالَ هُمۡ أُوْلَآءِ عَلَىٰٓ أَثَرِي وَعَجِلۡتُ إِلَيۡكَ رَبِّ لِتَرۡضَىٰ ٭ قَالَ فَإِنَّا قَدۡ فَتَنَّا قَوۡمَكَ مِنۢ بَعۡدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ” [طه: 83-85]. وكما هو واضح، فقد ورد لفظ “ٱلسَّامِرِيُّ” معرفة والتعريف يُشير إلى “التقييد” أو “المُقيد” لذا، يأتي اللفظ ليُشير إلى الشخص، الذي كان في زمن النبي “مُوسَىٰ” عليه السلام. وهو ما يؤكد من جديد على أن تثبيت حرف الألف في “ٱلسَّامِرِيُّ”، يأتي مؤشرا دلاليا على الجانب المادي العضوي للمصطلح.
وهو ما يتأكد أيضًا في قوله تعالى: “فَرَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَٰنَ أَسِفٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ أَلَمۡ يَعِدۡكُمۡ رَبُّكُمۡ وَعۡدًا حَسَنًاۚ أَفَطَالَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡعَهۡدُ أَمۡ أَرَدتُّمۡ أَن يَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبٞ مِّن رَّبِّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُم مَّوۡعِدِي ٭ قَالُواْ مَآ أَخۡلَفۡنَا مَوۡعِدَكَ بِمَلۡكِنَا وَلَٰكِنَّا حُمِّلۡنَآ أَوۡزَارٗا مِّن زِينَةِ ٱلۡقَوۡمِ فَقَذَفۡنَٰهَا فَكَذَٰلِكَ أَلۡقَى ٱلسَّامِرِيُّ” [طه: 86-87]. إذ يأتي لفظ “ٱلسَّامِرِيُّ” في سياق من المصطلحات القرءانية التي تتضمن أبعادًا مادية عضوية مثل: “حُمِّلۡنَآ أَوۡزَارٗا… زِينَةِ ٱلۡقَوۡمِ… فَقَذَفۡنَٰهَا… فَكَذَٰلِكَ أَلۡقَى…”؛ وهو ما يؤكد على الجانب المادي العضوي في لفظ “ٱلسَّامِرِيُّ”، عبر تثبيت حرف الألف.
أما في قوله سبحانه وتعالى: “قَالَ فَمَا خَطۡبُكَ يَٰسَٰمِرِيّ ٭ قَالَ بَصُرۡتُ بِمَا لَمۡ يَبۡصُرُواْ بِهِۦ فَقَبَضۡتُ قَبۡضَةٗ مِّنۡ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ فَنَبَذۡتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتۡ لِي نَفۡسِي” [طه: 95-96]؛ لنا أن نُلاحظ أن لفظ “سَٰمِرِيّ”، يأتي دون تثبيت حرف الألف. بل ويرد في صيغة النكرة والنكرة مُطلقة؛ ومن ثم فهي صفة والصفة تُورث؛ بما يعني أن كل من اعتقد بما جاء به السامري، من أفكار أو أيديولوجيات مُشابهة، فهو “سَٰمِرِيّ” زمانه. فالمسألة، إذًن ليست خاصة بقوم موسى عليه السلام فقط؛ بل هي مسألة مُطلقة بكل زمان ومكان، من منظور أن القرءان استمراري غير مُقيد بالزمان أو المكان.
ولعل هذا ما يؤكد أن ورود لفظ “سَٰمِرِيّ” دون تثبيت حرف الألف، يأتي مؤشرا دلاليا على الجانب المعنوي الوظيفي للمصطلح.
“فِرَٰشٗا” و”بِنَآءٗ”
وردت “فِرَٰشٗا” في آيات التنزيل الحكيم هي ومشتقاتها، في مرات “ست”، اثنتان منها تختصان بـ”ٱلۡأَرۡضَ”؛ وذلك كما في قوله سبحانه: “وَٱلۡأَرۡضَ فَرَشۡنَٰهَا فَنِعۡمَ ٱلۡمَٰهِدُونَ” [الذاريات: 48].. وكما في قوله تعالى: “ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ” [البقرة: 22].
وكما يبدو، فقد وردت “فِرَٰشٗا”، في الآية الكريمة [البقرة: 22] محذوفة الألف أو دون تثبيت حرف الألف، للدلالة على الجانب الوظيفي المعنوي لمصطلح “فِرَٰشٗ”. إذ لنا أن نُلاحظ أن المصطلح يدل على الاختلاف النوعي في “فراش” الأرض، واختلاف تضاريس هذا الفراش من مكان لآخر؛ هذا فضلا عن الاختلاف في الجوانب الوظيفية والمعنوية، ومدى تأثيرها على حياة الكائنات الحية على سطح الأرض التي نعيش عليها، بما فيها الإنسان؛ ما بين سهول وصحاري، أنهار وبحار، برودة وحرارة.. وهكذا.
أما في قوله سبحانه: “ٱلۡقَارِعَةُ ٭ مَا ٱلۡقَارِعَةُ ٭ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡقَارِعَةُ ٭ يَوۡمَ يَكُونُ ٱلنَّاسُ كَٱلۡفَرَاشِ ٱلۡمَبۡثُوثِ” [القارعة: 1-4]؛ يأتي لفظ “ٱلۡفَرَاشِ” في صيغة المعرفة، بما يُشير إلى الفراش المعروف؛ وبالتالي، جاءت مع تثبيت حرف الألف، للدلالة على الجانب المادي، العضوي، للمصطلح.
أما “بِنَآءٗ”، فقد وردت في آيات التنزيل الحكيم، في مرتين، للإشارة إلى الـ”بِنَآءٗ” الخاص بـ”ٱلسَّمَآءَ”؛ كما في قوله تعالى: “ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡۖ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ” [غافر: 64].. وأيضًا في قوله سبحانه: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ٭ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ” [البقرة: 21-22]؛
وهنا، لنا أن نُلاحظ الفارق بين كل من “فِرَٰشٗا” و”بِنَآءٗ”، من حيث ورود الأخيرة ثابتة الألف، في حين وردت الأولى محذوفة الحرف، أي دون تثبيت حرف الألف؛ وهو ما يُشير إلى أنه في الوقت الذي تدل فيه “فِرَٰشٗا”، على الاختلاف النوعي في فراش الأرض، للإشارة إلى الجوانب المعنوية، والوظيفية، لهذا الـ”فِرَٰشٗ”؛ فإنه أيضا تأتي “بِنَآءٗ”، التي ترد بهذا الرسم القرءاني، لتدل على الجانب المادي، العضوي؛ من حيث إن “بناء السماء” هو بناء مُتشابه حين النظر إليه، من أية زاوية ومن أي مكان، ومن أية قارة يقف عليها الإنسان.
وللحديث بقية.