يقول الفيلسوف والكاتب الأمريكي رالف إيمرسون (1803-1882م) “قبل أن نصل إلى السلطة، علينا أن نصل إلى الحكمة؛ كي نستخدم السلطة بشكل جيد” والمتفحص للأزمة السودانية الحالية، يدرك مدى غياب الحكمة في معالجة الكثير من الانقسامات الداخلية والوضع السياسي المأزوم في الشارع السوداني، ما تسبب في تلك النتائج المأساوية التي وصلت إليها البلاد.
واقع سياسي مأزوم
منذ أن هاجمت قوات الدعم السريع السودانية بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي” الخرطوم العاصمة في منتصف أبريل من العام الماضي، واشتبكت مع القوات المسلحة السودانية في أعمال قتالية استمرت لأشهر؛ على إثر انسداد الأفق السياسي في البلاد، نزح قرابة الخمسمئة ألف شخص من العاصمة؛ متجهين إلى ولاية الجزيرة التي كانت لعدة أشهر في معزل عن هذا الصراع المحتدم، كما وقع كثير من المدنيين بين قتيل وجريح.
أيضا في الخامس عشر من ديسمبر الماضي، نفّذت قوات الدعم السريع عملية عسكرية وهجوما منظما على ولاية الجزيرة وعاصمتها ود مدني، ما دفع نحوا من ثلاثمئة ألف شخص إلى النزوح، سواء إلى مناطق أخرى في ولاية الجزيرة أو نحو الولايات المجاورة مثل سنار والقضارف، وفق ما أعلنت عنه الأمم المتحدة، كما انتشرت عمليات السلب والنهب لممتلكات المدنيين في المناطق التي تدور فيها المواجهات العسكرية، وشُكّلت بعض لجان المقاومة من العناصر الشعبية للتصدي لاعتداءات بعض المنتسبين لقوات الدعم السريع.
لا يخفى على المتابع للشأن السوداني، رصد بعض التقدم الذي حققته قوات الدعم السريع في مواجهة الجيش السوداني، وذلك لعدد من الأسباب اللوجستية والفنية في العمليات القتالية التي رجّحت كفة الدعم السريع هذه المرة. فنجد أن قوات الدعم السريع تتبع نظاما غير تقليدي في عملية تجنيد مقاتليها، هذا النظام أعطاها ميزة تنافسية أمام القوات النظامية للجيش السوداني، إذ تُعطى نسبة كبيرة في تلك القوات لبعض القبائل المنتشرة في السودان وخارجها من دول الجوار، لكن الغلبة فيها لمجموعة عرقية واحدة، هي التي تنتمي إليها قيادة الدعم السريع.
مقاتلي القبائل سلاح استراتيجي
يُمثِّل مقاتلو القبائل العمود الفقري لتلك القوات، وتشكل لها مصدرا وموردا لا ينضب من العناصر المُدرّبة بشكل جيد، الأمر الذي أطال أمد الصراع في السودان لعدة أشهر ربما تزيد، كما حققت قوات الدعم خلالها إنجازات استراتيجية على الأرض.
كذلك، ركَّزت قيادة الدعم السريع على إيجاد موارد مالية كافية لتأمين رواتب هؤلاء المقاتلين، وتأمين العتاد العسكري المناسب لهم من خلال بعض الأنشطة التعدينية في الذهب واليورانيوم وغيرهم.
ولم تكن مهمة توريد المقاتلين إلى الداخل السوداني مستحيلة، فما أن فُتِحَ باب تجنيد المقاتلين على مصراعيه مع بدء النزاع؛ حتى توافد على البلاد الآلاف من هؤلاء، من دول الجوار الأفريقي. وكان من أهم المناطق التي انطلق منها هؤلاء المقاتلين- الجنوب الليبي الذي ينتشر فيه هؤلاء المقاتلين بكثرة؛ لكنهم انسحبوا من ربوع الأراضي الليبية عقب إتمام المصالحة الشاملة في البلاد عام 2021، هؤلاء المرتزقة والمقاتلين- أتوا من قبائل هذه المنطقة والمناطق المحيطة، وعادوا بعدها إلى المناطق التي أتوا منها، مثل مناطق شمال السودان، وشمال النيجر، وشمال مالي، وموريتانيا، وغينيا، وبوركينا فاسو، ومناطق أخرى من نيجيريا والكاميرون.
معظم المقاتلين في العمليات العسكرية للدعم السريع جاءت من بعض القبائل الإفريقية والعربية الكبيرة. فمثلا توجد خمس قبائل أساسية في أفريقيا، تتشكل منها تلك العناصر المسلحة، منها قبيلة الطوارق وينتشرون من حدود موريتانيا إلى جنوب الجزائر إلى شمال مالي وشمال النيجر وشمال بوركينا فاسو، وجنوب غرب ليبيا وبعض مناطق السودان. قبيلة الفولاني (أو شعب الفولاني) التي تنتشر في غرب ووسط أفريقيا والساحل الإفريقي. قبيلة التبو والقرعان وتتواجد في الصحراء الوسطى في شمال تشاد وجنوب ليبيا وشمال شرق النيجر. وقبيلة الهوسا وتنتشر في منطقة الساحل ومنطقة السودان نواحي الدورا بشمالي نيجيريا وجنوب شرق النيجر، كما تعيش أعداد كبيرة أيضا في أجزاء من الكاميرون، وكوت ديفوار، وتشاد، وتوغو، وغانا، والسودان، والغابون والسنغال. وقبيلة الزغاوة التي تتواجد في فزان شمال شرق تشاد، وغرب السودان، بما في ذلك دارفور، والتي منها الرئيس التشادي الراحل إدريس ديبي (1952-2021).
عانت تلك القبائل على مدار تاريخها -خاصة فترة الاستعمار الفرنسي- من النقص الشديد في خدمات التعليم وأبسط مقومات الحياة، ومن التهميش في المشاركة السياسية. وهناك تشابك دائم بين القبائل السودانية وتلك القبائل الأفريقية الأخرى المجاورة.. ساعد هذا التشابك والتواصل على تعزيز التعاون فيما بينها.
الذهب السوداني للثراء والحرب
يمثل التنقيب الأهلي عن الذهب الأداة السحرية لتحقيق الثراء السريع في السودان، وذلك بالرغم مما يشوب هذا النشاط من أعمال غير قانونية، أغلبها يهدد أمن البلاد ويهدد استقرارها الاجتماعي في أحيان كثيرة، ويمكن على سبيل المثال ملاحظة ذلك النشاط بشكل كثيف في منطقة “قبقبة” شمال مدينة أبو حمد، إحدى أكبر مدن ولاية نهر النيل شمال السودان، وهي المنطقة الأولى من حيث إنتاج الذهب عبر التعدين الأهلي في البلاد.
لم ينتهِ دور الذهب عن تحقيق الثراء السريع للمنقبين عنه، بل أصبح أحد مصادر مأساة الواقع السوداني الحالي، فبالرغم من منحة الثراء لعدد من “الداهبة” أو المنقبين عنه، أصبح أيضا لعنة على البلاد وسببا في اجتذاب الميليشيات والمرتزقة المسلحين إليها، مثلما فعلت فاجنر والمليشيات النشطة في المناطق الغنية بالذهب، مثل شمال السودان، ومناطق المحس، وأبو حمد، تحديدا شمال شرقي مركز العابدية، في مناطق غرب السودان، ومناطق شرق السودان، وأيضا مناطق الأنقسنا جنوبا وجبال النوبة. كذلك، يُجَنَّد الشباب من العاملين في مناطق التعدين الأهلي عن الذهب، ويمنحون مرتبات مجزية أكثر من تلك التي يتحصلون عليها من الأنشطة التعدينية التقليدية. وبذلك يشكل الذهب والتنقيب عنه وتسخير العاملين فيه موردا حيويا للمليشيات المقاتلة ويزيد من طول أمد المعركة.. ومعها يزداد الموقف السياسي تعقيدا وتتلاشى فرص التسوية السلمية والاستقرار.