بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عروبة 22
قد يقول قائل إنّ مشكلة الهندسة الأمريكية لسيناريوهات “اليوم التالي” هي أنها نموذج كلاسيكي لاحتقار الغرب التاريخي لإرادة المنطقة، ومعاملتها كأنها مجرد مساحة بيضاء على خريطة معلّقة على حائط البيت الأبيض.
لكن المشكلة هذه المرة أكبر بكثير لسببين رئيسيين:
الأول: أنّ التخطيط الأمريكي الإسرائيلي لم ينتظر الحرب حتى تنتهي بل استبقها وبنى مخططه الجيو-استراتيجي للمنطقة على أهداف افترض أنّ إسرائيل ستنهي الحرب وقد حققتها كاملة غير منقوصة.
الثاني: أنّ رياح حرب غزّة وصمود مقاومتها جاءت عكس ما اشتهت سفن الأهداف الأمريكية الإسرائيلية الغير واقعية فكانت نتائجها – حتى الآن على الأقل – بناءً لما حاولت أن تهدمه، وهدمًا لما أرادت أن تبنيه.
في الافتراضات، اعتمدت سيناريوهات “اليوم التالي” على أنّ الحرب ستُنجز أهدافها في سحق المقاومة واستئصالها ونزع سلاحها للأبد وقتل أو استسلام أو هرب أو نفي قادتها. وأنّ غزة في “اليوم التالي” هي غزّة ساكنة تديرها السلطة الفلسطينية بشكل جزئي مع دول عربية مقبولة إسرائيليًا في مرحلة انتقالية ثم تديرها بشكل كامل في مرحلة تالية. وسينشأ فيها وضع تنسيق أمني في غزّة مماثل لوضع الضفة حاليًا بحيث تتأكد إسرائيل أنّ هجومًا آخر مثل هجوم ٧ أكتوبر لن يحدث أبدًا.
بعد أكثر من ١٠٠ يوم ما زالت الحملة العسكرية بعيدة تمامًا عن تحقيق أي هدف من أهدافها، ويرى فريق يضم بعض أهم من خدموا في الجيش والمخابرات الإسرائيلية أنها لن تتحقق أبدًا؛ بينما يتشبث فريق آخر منهم، ولكن أقل عددًا، بفكرة أنّ استئصال المقاومة هدف ممكن ولكن يحتاج عند نفر منهم شهورًا، وعند نفر آخر سنوات!.
في كل الأحوال يبدو “اليوم التالي” بعيدًا، وشروط فرض سيناريوهاته المبكرة غير متوافرة كاملًا، إذ إنّ طول أمد الحرب قد يحمل معه متغيّرات وتفاعلات متوقعة وغير متوقعة تقلب كل الحسابات بما في ذلك اتساع نطاق الحرب.
في الوقت الذي تتأرجح أهداف وافتراضات السيناريو الأمريكي في حالة من عدم اليقين، تتأكد وترسخ في الأرض أهداف ونتائج معاكسة تحمل مزيدًا من الأخبار السيئة لتصورات أمريكية يغلب عليها الغرور والتجبّر وعدم التعلّم من تجاربها الفاشلة المريرة في فيتنام وأفغانستان والعراق.
سعت إسرائيل إلى القضاء على المقاومة وحذفها من المعادلة الفلسطينية فتحوّلت “حماس” إلى القوة الشعبية الأولى في فلسطين.
تقديرات معلنة للاستخبارات الأمريكية واستطلاعات رأي فلسطينية وعربية موثوق في منهجيتها، تشير جميعها إلى صعود صاروخي في شعبية “حماس” وهبوط صاروخي في شعبية السلطة الوطنية الفلسطينية، خاصة عندما يتعلق الأمر برئيسها محمود عباس.
في تحليل موجز لعشرات من هذه التقديرات والاستطلاعات يمكن الخروج بهذه الاتجاهات الاستراتيجية:
– فلسطينيًا: أغلبية الفلسطينيين في الضفة وغزّة يؤيدون “حماس” والمقاومة وسيقومون بإعطاء قائمتها أغلبية في أي انتخابات كافية لتقود حكومة فلسطينية على الضفة وغزّة، وليس غزّة فقط.
أي أنّ بايدن ونتنياهو بشنّهما حرب الإبادة الجماعية بدلًا من أن يحذفا المقاومة من غزّة جعلاها اللاعب الأول فلسطينيًا والقوة المهيمنة سياسيًا وشعبيًا على كامل الجغرافيا الفلسطينية، فثلثا الفلسطينيين يرون أنّ أفضل سيناريو في “اليوم التالي” هو حكم “حماس” ولا يؤيد إلا ٧٪ أن تحكم السلطة بعد الحرب في غزّة أو الضفة!!
نحو ٩٠٪ من الفلسطينيين يريدون استقالة عباس وخروجه من المشهد، وإذا ترشح أي شخص من “فتح” لمنصب رئيس السلطة، باستثناء الأسير المناضل مروان البرغوثي، فإنه أيضًا سيخسر وسيتم وقتها تفضيل مرشح “حماس”.
ننحي جانبًا أنّ أمريكا دولة ديمقراطية ويفترض أنها تؤمن باختيار الشعب لممثليه وأنّ عليها أن تتعامل مع “حماس” و”الجهاد” كما تعاملت من قبل مع منظمة التحرير.
لكن السؤال هو كيف يمكن لعاقل تصديق أنّ هذا السيناريو يمكن أن يجلب استقرارًا، وهو يقوم على حل يستند إلى سلطة يرى استطلاع آخر أنّ ثلثي الشعب الفلسطيني مع حلّها.
لا يتعلق الأمر بالفارق الهائل في الشعبية بين “حماس” و”الجهاد” من جهة، و”فتح” والسلطة من جهة أخرى، ولكن يتعلق بما هو أخطر وهو تحوّل الأغلبية الفلسطينية لطريق المقاومة المسلّحة على حساب الطريق السياسي، وهذا يُعقّد سيناريو “اليوم التالي” الساعي لاقتلاع ثقافة المقاومة وايدلوجيتها وحجبها من أمام نظر الأجيال العربية الشابة. قيمة هذا التطور أنه يبقي التهديد لإسرائيل ومصالح أمريكا قائمًا إلى ما شاء الله، فحتى بفرض أنّ الحرب ستنتهي بالقضاء على “حماس” و”الجهاد” فإنّ منظمات أخرى بالأسماء نفسها أو بأسماء أخرى ستولد ولكنها ستكون أشد عنفًا وكرهًا لإسرائيل وأمريكا.
– عربيًا: تشير الاستطلاعات وتقديرات مؤسسات الأمن الغربية إلى تنامي العداء الشعبي للولايات المتحدة بصورة لم تحدث منذ الزمن الناصري. التطور المثير هنا هو أنّ ارتفاع معدلات العداء الشعبي لأمريكا اقترن بعدم رضا على أداء معظم الحكومات العربية الحليفة للولايات المتحدة في هذه الحرب. كما اقترن برفض من الشعوب العربية (٩٧٪) لسيناريو يتضمن توريط دول عربية في تشكيل قوة أمنية في غزّة تُنسّق مع إسرائيل.
هذا الإقتران سيشكّل تحديًا للسهولة التي كانت تحصل بها أمريكا عادةً على ما تريد من الحكومات العربية، فهذه النظم تواجه تحديات عدم استقرار منذ اندلاع الحرب ولديها هنا خياران:
الخيار الأول: هو أن تخاطر بشرعيّتها الداخلية وتسير إلى فخ “اليوم التالي” مفتوحة العينين وذلك بحسب تقارير نسبت إلى بلينكن قوله إنّ “الدول العربية موافقة على إنقاذ إسرائيل” والمساهمة في إدارة قطاع غزّة وإعادة إعمارها وأنّ السلطة مستعدة للقيام بدور الحكومة في غزّة إضافة للضفة بناء على طلب الإدارة الأمريكية!! وشرطها الوحيد هو الحصول على أموال الضرائب التي تحتجزها إسرائيل!!”.
خطورة هذا الخيار أنه إذا هددت هذه المجاراة والتبعية كيان السلطة في بلد عربي حليف، فإنّ كامل هندسة الهيمنة الأمريكية على المنطقة القائمة منذ ٤٥ عامًا قد تتأثر أو تنهار.
الخيار الثاني: هو أن تقوم هذه الحكومات بالتجاسر وترفض اقتراحات حساسة شعبيًا تنطوي على مخاطر تأليب شعوبها. وتوافق فقط على الاقتراحات الأقل إثارة للغضب الشعبي أو التي يمكن عملها سرًا.
أي أنه في الأخير فإنّ حقائق الموقف الشعبي وهشاشة استقرار الحكومات في العالم العربي خلقا واقعًا يتحدى سيناريوهات واشنطن بحذف المقاومة وإحلال السلطة.
ربما من مكاسب “طوفان الأقصى” العديدة أنّ أمريكا لم تعد تتمتع بالقدرة المطلقة ذاتها التي امتلكتها في توجيه حكومات المنطقة الموالية لها في نصف القرن الأخير، المفارقة الكبرى هي أنّ أمريكا تكرر بمثل هذه سيناريوهات أخطائها في أفغانستان والعراق وتعود لمحاولة فرض أحمد جلبي وحميد قرضاي آخرين رغم ما قاد إليه ذلك من كوارث.