ثقافة

“مِعْلَامة” أم عالم من الشغف.. والسحر المثير؟

ما سيرد هنا ليس قراءة بمعنى القراءة، ولا هو مقاربة نقدية لهذه السردية الساحرة، هو مجرد تحية للسردية وصاحبها، إنه مجموع تعليقاتي على حلقاتها لم أتدخل فيه تدخلا يذكر، فقط تدخلت ببعض الكلمات من أجل ربط الفقرات، وأبعدت الجمل التي تمثل زوائد لو وردت هنا، وهي جمل من نوع (خالص محبتي) أو (تحياتي).

ولعل هذه التحية تكون أول تحية تقدم لكتاب بهذا الشكل، لكنها في رأيي نوع من التفاعل الحار والطازج مع المكتوب يتميز بالعفوية والتلقائية وعدم التكلف. وهو وجه من وجوه الكتابة في زمن وسائل التواصل الاجتماعي. أتمنى أن يأخذه القراء كما هو.

يلقانا علوان الجيلاني ساردا عن نفسه أولا، وإن لم يقع هذا بشكل مباشر، هنا هو البطل الأول، بل هو المين كاراكتر main character, الشخصية الأساسية من وجهة نظري، لماذا أرى هذا؟ ﻷن طريقة تذكره للأحداث والأسماء (الرجل المبارك سود العراقي) مثلا، لا يدل على ورود الأسماء مرة واحدة، في حياة علوان الجيلاني، إذ أن مرور شخص بحياتنا في موقف واحد فقط لا يتكرر، ﻻ يتيح لنا تذكر الأسماء، إذا كان علوان منغمسا في آلاف الأحداث والمواقف، التي يتكرر فيها مرور الأسماء والأشخاص فسوف تنحفر في ذاكرته. إن الحكاية بقدر ما تحمل من وقائع وأحداث عن أفراد آخرين (جده، والده، والدته، الخدم، والمساعدين والشقاة الخ) بقدر ماهي حكايته هو فقط لا أحد سواه.

من وجهة نظري تتجلى محورية علوان في الحكاية من خلال قلة الاتكاء على السرد التأرجحي المتمثل في الحوار، أوالتفريع الحكائي، فقط تركيز وتكثيف لحدث واحد.. ومن ثُمَّ توصيف الحدث بلغة جمة الأناقة والجمال، صحيح أن السردية في مجملها تجعل فصولها أو عناوينها الفرعية تبدو تفريعا حكائيا، إلا أن محور الحكاية كلها علوان، فكل هذا ﻻ عن أحد ولا لأحد، ولا من أحد آخر سوى أنت يا علوان.

ما قصدته هو أن مشاركته الفعلية حين كان طفلا في تفاصيل الحياة اليومية، كانت دون شك تختلف أو تتميز بطبيعة تختلف عن طبيعة مشاركة أترابه من أبناء الجيلانية، تلك المشاركة التي ليس بالضرورة أن تكون مشاركة فيزيائية، وإنما مشاركة منطقية فكرية غير ملموسة، والسبب في ذلك هو امتلاكه للحس الملاحظ المراقب الناقد المبدع الخلاق المبتكر الفنان المرهف، وهذه هبة الله إليه.. فالناس ليسوا سواء.

أحيانا هو يسرد وأنا أقرأ وأكاد أبكي؛ فهذا الأسلوب يشبه النافورة الحكائية المتدفقة، كلما أمعنا النظر إليها زاد استمتاعنا بها، كأنه يأمرها ألا تتوقف، فينساب السرد جميلا رقراقا، والحقيقة أنه لا يليق هذا الأسلوب إلا براوٍ مثل علوان الجيلاني، وأنا أرى أنه مُؤخرا صار مشغولا بتقديم هذا الجمال الواقعي، وهو واقع مطبوع بطابعه الفريد، ما يكتبه يبدو أشياء ولا في الأساطير.

 ما يؤسف له أن أجيال اليوم قد لا يصدقون قصصا كانت واقعية وبديهية الحدوث بالأمس (الحنش والباهوت) و(كبيش عنتر فوق المهرة) مثالا.

 ترى كيف نستطيع أن نقدم كل سحر الماضي؟ هل نبني دراما ونقدمها عبر التلفزيون مثلا؟ تهامة جزء من اليمن، جزء غني جدا تراثيا وفنيا، ومن حولها باقي مناطق اليمن التي بدورها غنية أيضا.

(هي زوجتك أنت) جعلتني أبكي وتمنيت أن الكاتب لم يقف، تمنيت أن يتواصل السرد، ثمة شخصيات مثل (فاطمة) تتحول إلى شخصيات تسكننا، ونشعر أننا نريد معرفة بقية مجريات حياتها، قرأتها ثم كفكفت دموعي وقلت: هنيئا لنا بك يا علوان وبسردياتك الباذخة التي تتجاوز حدود السرد السيري الذاتي.

أحيانا تشتغل السرديات على المغزى مثلا سردية (حفروا القبر فوجدوا اللبن فيه)، خاتمة الحكاية هي المغزى، كنت أتمنى لو بدأت الحكاية بها. لكن البدء بالخاتمة كان سيفقدها عنصر المفاجأة. لا أحد يؤمن بالكرامات اليوم، مع أنها تحصل كل يوم، فقط نحن لا نراقب جيدا.

(كلاب الجيلانية) من أجمل ما قرأت وكأني أقرأ لحبيبنا جابرييل غارسيا ماركيز، علوان الجيلاني جعل من عناصر الحياة اليومية البسيطة الأثيرة على النفس عوالم من السحر، فقط أغاظني كثيرا أنه أبقى اسم وهوية صاحب السوزوكي خفية، وهذا ليس من حقه، وقد طالبته أمام الجميع أن يصرح باسمه وفاءً للمشهد القصصي، فهو جزء منه، ومن حقي أن أعرفه، حتى لو يذكره لي على الخاص (أعاد الكاتب تعديل النص وذكر اسم صاحب السيارة).

أما (دفعة امسيفاني) فقد قرأتها، وقلت في نفسي: ماذا تريدني أن أكتب؟ أعجز حقا الآن عن أن أعلق بشيء، وخاطبت الكاتب علوان الجيلاني (كيف تقول بها وتوطيبها وتصلحها؟)

(أيام البريح) جعلتني أقول ﻻ سامح الله المدينية والتحضر، فبقدر ما سهلت حياة الناس، بقدر ما أحالت الألفة والتواصل إلى صفر، في بعض الأحيان أدعو الله سبحانه وتعالى أن ييسر لي عيش ما تبقى لي من عمر في أجواء وأماكن تكون نسخة طبق الأصل من الماضي ولكن هيهات، كيف السبيل؟

(يوم عرس أبي الأول) تفاجأت وأنا أقرأها، فـ (السُّلّامةُ)، وهي تقبيل العريس لعروسه أمام الناس رجالاً ونساءً، بنفس الطريقة الموجودة في منطقة الكاتب، هي نفسها كانت موجودة في جازان، لكنها تسمى (امْطَفَّة) الطَّفّةُ من الطفو والارتفاع أي القفزة إلى مربع العروس، وعند بعض القبائل أو الأسر يحاولون عرقلة العريس، وهو يركض استعدادا للقفز بــ (شباك) أي شباك الجرار المصنوعة من الطفي. لكن القصة أعادتني إلى وقائع أعرفها، فقد فهمت سبب فرحة والدك سنة 1992م؛ وتماهيه مع فرحتك، وما كان في قلبك يوم خطوبتك. الله الله يا علوان حياتنا مليئة بالأشجان.

أما وأنا أقرأ (كيف تزوج أبي أمي). فقد قلت: الله المستعان. كأن تلك الربوع وأيامها وقصصها رحلة تغادر بك من فوق الأرض، تنتقل عبرها إلى مجالس فوق الغيوم. ومن هناك وأنت مُحلّق في عوالم حقيقية كأنها من نسج الخيال، كم من أبناء تهامة أمثالك يا علوان الجيلاني ﻻ حظ ذلك الجمال، والتقط تلك التفاصيل، التفاصيل التي تأخذ بيدك وتدخلك شخصيا إلى محراب الجمال والواقع التهامي الأثير؟ أنا شخصيا لم أر أو أقابل شخصا كعلوان يقدم لك كل هذا الجمال والأبداع والقدرة على القص. الكلمات هنا تتحول إلى سحر حقيقي.

لقد قابلت الكثير من أبناء المنطقة التي ينتمي إليها علوان الجيلاني، عرفت كثيرين من القناوص وعبس والزيدية والضحي والحديدة والمراعة وزبيد وغيرها، ويعلم علوان الجيلاني نفسه أن معظم من عرفناهم وأحببناهم هم مثقفون وأدباء وشعراء ومتذوقون للفن والأدب وتفاصيل الحياة التهامية، ولكن.. ولكن.. ولكن: كم واحدا ممن عرفتهم أنا شخصيا وتشرفت بمعرفتهم وبصداقتهم، كم واحدا منهم قص قصة أو حكى حكاية كهذه الحكايا المدهشة الرائعة التي تأسر العقل؟  أقصد إن الرجل مميز، لم ولن ولا أعتقد أن أحدا من أصدقائنا الباقين يستطيع أن يأتي بقصة مثل قصة (الباهوت) مثلا، أعتقد أن الفارق يكمن في أن اهتمامات علوان عالية الهمة، عالية الذوق، عالية الملاحظة، إنه يكتب بعين أديب كبير وفنان مرهف.

ومرة أخرى قلت: الله المستعان، وأنا اقرأ (حبيبة ابن هادي هيج). لقد وجدت نفسي في مواجهة مع وجع البشر من البشر، لفتت نظري هذه الجزيئة، تذكرت قصة امرأة سحروها وفقدت قواها العقلية لنفس السبب، زوجة غيورة تريد أن تبعدها عن زوجها، وعديد قصص متشابهة تؤدي خواتيمها إلى نفس النهاية؛ امرأة تفقد قواها العقلية وتتسكع على قارعة الحياة؛ تشفق على حالها القلوب الرحيمة فقط.

في (كسرة امنفس صعبة) الثيمة الرئيسية هي تلك الجملة، المشهد الذي قيلت تلك الجملة فيه، أما البُدة فهي كاراكتر ثانوي في نظري، عدا دورها في جزء (امرازم)، أوالكابوس، الطريقة التي انسرد بها الكابوس تجعلني أضيف أن علوان الجيلاني يكتب بطريقة ساحرة، إنه يستحق تسجيل براءة اختراع على هذا الأسلوب الجديد في البناء الحكائي، إن من يعرف تهامة جيدا، يعرف أن ﻻ أحد يستطيع أن يسرد لك أشياء 100% تهامية، ما لم يكن شخصا تهاميا نشأةً ومعيشًا وحياةً ومخالطةً واجتماعًا وعلى معرفة بكل صغيرة وكبيرة، إذ أن تفاصيل تهامة كثيفة ومزدحمة ومليئة بالعناصر التي لا عد ولا حصر لها، قف على باب بيت تهامي وجل ببصرك، تقريبا في كل شبر ستجد تفاصيل التفاصيل بدءًا بالأسماء والدلالات والمعاني وانتهاءً بالاستخدامات، واستدعاء الأشياء إلى الحياة اليومية.

(ولا واحدة حداشي)؛ أي أن الأمور ليست كما هي، أي ولا واحدة وصلت إلى الرقم 11 أي لم تتجاوز العشرة، هذا هو الواضح من استعمال العبارة، أما السياق، فلا يوجد سياق على الإطلاق للعبارة، الصمودي كان يستخدمها للمغالطة، وأعتقد أن هذا الصمودي لم يكن سى عيارا، حرفوش، ربما شبيه بشخصية علي زنيّة، السرد مسبوك جدا وطريف جدا، أكملت قراءتها وقلت: أبدعت وأجدت يا علوان كالعادة، ولا واحدة حداشــــــي.

أما في (فرج يبيع السحابة) فاللأسف كان هناك تقصير كبير من الحاكم (جدك عبدالله رحمه الله)، فشخص مثل فرج يتصرف هذا التصرف، كان يجب من البداية ألا يُعطى فرصة، خانت جدك شفقته وحرصه على إتمام الزواج في موعده فقط، وإزاء ذلك اطمأن (فرج) وتمادى في غيّه. ما هو إلا (صايع بلطجي) النهاية مأساوية حيت سالت دماؤه وجُنّت شوعية، تمنيت لو أن جدك أمر بجلده 3000 جلدة بــ(مخباط طري).

في (فنانون بين الدوم، توقفت عند قوله (أما إن كان ناضجا فستدوخنا رائحته المخمرة وتأخذ بعقولنا) وقلت: من يومها هاه؟ امخمرة.. وضحكت، لكني والله يا صديقي قد عايشت ومررت بجميع ما ذكرت من شغف بالكاسيتات، والمطربين، نفس الذين شغفت بهم باستثناء الآنسي وبزيادة على من ذكرت فقد شغفني محمد جمعة خان، الذي كنت أظنهم ينطقون اسمه (محمد جميخان). أما المسجلة المسطحة التي تأتي مع ميكروفون ولبس جلدي فهي ماركة NATIONAL. ألا ليت ريعان الشباب جديد. زدنا من حلاوة الصبابة والربابة الحكائية بالله.

 سردية حادثة الهدا المذكورة في سياق (مقتل الدومة الكبيرة) تذكرني بحادثة أخرى حدثت في السبعينات جنوب صامطة في منطقة جازان أتذكرها، ربما أترابي من صامطة يتذكرون انقلاب شاحنة المرسيدس في السيل، ووفاة كثير من ركابها غرقا.

وكذلك طمرت في جرف وأقسم بالله العظيم لمدة أشهر طويلة أخذ الناس الكثير من الملابس وألعاب والحاجات التي كانت تظهر بين وقت وآخر حسب سرعة جفاف الماء، وانحسار السيل في تلك البقعة، طبعا كنت صغيرا جدا على أن أذهب إلى الوادي وأنتهب ألعابا وملابس كما يفعل من كانوا يكبروننا بضع سنين. أهجت صبابة يا علوان وذكريات دفينة.

وبعد؟

أعتقد في رأيي المتواضع أن علوان مهدي الجيلاني امتلأ (تهممة) حد التخمة، لذا أخذ كوفيته ومهبه وأتريكه وأهله، ثم كل الناس حوله من قريته، والقرى الأخرى وأخذ المطر والسيل والبهائم والمنازل والصحة والمرض والمناسبات والأرض والزرع واستحضر كل الأسماء وكل مكونات الذاكرة وتراثها وقدم لنا سردية كبيرة تحتوي على سرديات أو حكايات تمثل كل واحدة منها عالم من الواقع والخرافة والدهشة والسحر المثيـر.

*رحل الكاتب والناقد عبد المهيمن الأفلح في الأول من مايو عام 2022م، وكانت رواية “معلامة” للكاتب اليمني علوان الجيلاني في طريقها إلى الصدور.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock