رؤى

الرسم “القرءاني”.. ودلالات مصطلح “طَآئِفٞ”

لما كان المصطلح، أي مصطلح، هو “أداة العقل المُجَرَدَة في الإشارة إلى المعنى”، بالشكل الذي يُعتبر فيه مثل الآلة تمامًا، لها مُجَرَدْ واحد هو اسمها المأخوذ من، والدال في الوقت نفسه على، عملها وإنتاجها؛ ومن ثم، يتوجب تعريفه، أو استكشاف هذا التعريف؛ لذا، يمكن القول بأن المصطلح يأخذ أحد جانبين اثنين، أو كليهما معًا: الجانب “المادي العضوي”، والجانب “المعنوي الوظيفي”، حيث لكل منهما التصور الخاص به في “الذهن الإنساني”.

بناءً على ذلك، قلنا، ونقول، ونؤكد أن هناك ضرورة في محاولة الكشف عن دلالات الألفاظ والمصطلحات القرءانية؛ بل، ومحاولة القيام بذلك عبر تدبر الآيات القرءانية من خلال لسانها، اللسان القرءاني، وسياقها ودلالة ألفاظها وتعبيراتها واصطلاحاتها.

المؤشر الدلالي

وهنا، لنا أن نشير إلى أن مثل هذا الكشف، إنما يعتمد على “المؤشر الدلالي” للمفهوم، الذي يُحدد الفارق بين الجانب “المادي العضوي”، وبين الجانب “المعنوي الوظيفي” للمصطلح القرءاني.

فمن خلال تأمل مُفتتح سورة يونس، حيث يقول سبحانه وتعالى: “الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡحَكِيمِ ٭ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ رَجُلٖ مِّنۡهُمۡ أَنۡ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ قَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٞ مُّبِينٌ” [يونس: 1-2]؛ يثور التساؤل حول: هل من المنطقي أن يصف الله جلَّ جلاله ما يكتبه الناس، برسم منهم، بأنه “ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡحَكِيمِ”. أضف لى ذلك، ما تدل عليه ملاحظة سياق الآيتين الكريمتين، من أن “ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡحَكِيمِ”، هي ـ على الحقيقة ـ “وحي من الله”، بدلالة قوله تعالى: “أن أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ رَجُلٖ مِّنۡهُمۡ”؛ بما يعني الالتقاء الدلالي الواضح بين “أَوْحَيْنَا”، وبين “ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ”، بما يحمله هذا الالتقاء الدلالي على تأكيد كتابية “كِتاب الوحي”.

بناءً على ذلك، لنا أن نشير إلى ضرورة بيان “المصطلح القرءاني”، من حيث الدلالة في ارتباطها بالرسم القراءاني؛ إذ، إن كتابة القرءان بالرسم المعروف، الذي نُطالعه في المصحف الشريف، هو من الله سبحانه وتعالى، وهو مُنَزَّل بهذه الصورة، وبهذا الرسم؛ لأن القرءان هو كتاب، والكتاب لا يكون إلا مكتوبًا.

إذ، القرءان ليس فقط كلام الله، ووحيه إلى رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام؛ بل، هو كتاب الله عزَّ وجل. وبالتالي، من ذهب إلى أن “الرسم القرءاني” ليس توقيفيًا، فهو مُخطئ بلا ريب.

ولا يحتجن أحدٌ على أحدٍ بمسألة التاريخ، والروايات التي يذكرها لنا هذا التاريخ؛ إذ، لنا أن نحتكم جميعًا إلى القرءان الكريم ذاته، لإثبات مدى صحة أية مقولة نُرددها، ونعتقد في صحتها.

في هذا الإطار، لنا أن نُشير إلى أن كل كيان مادي في هذا الوجود له وظيفة منوطة به، يقوم بتأديتها، أو عليه أن يؤديها؛ وهو ما يُعبر عنه القول المأثور “كل مُيَسر لما خلق له”. وبهذا المعنى، فإن كلمات الله سبحانه وتعالى في هذا الكون، ليست فقط مجرد كائن مادي، أو كيان له وزن وكثافة وحجم، وغيرها من أنواع المقاييس؛ بل، أيضًا له وظيفة “مقترنة ومدركة مع مادته”.

ويتبدى هذا بوضوح إذا تأملنا قوله سبحانه وتعالى: “فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ٭ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ” [الواقعة: 75-76]؛ إذ، لنا أن نلاحظ أن المقصود بمصطلح “مَوَاقِعِ النُّجُومِ”، هو “الموطن الذي يتمركز فيه النجم بمكانه في السماء”، لما لكافة أبعاده عن بقية النجوم الأخرى من أهمية، لها علاقة بـ”حفظ” الأرض التي نعيش عليها؛ وذلك كما في قوله سبحانه: “فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ” [فصلت: 12]؛ حيث إن “وَحِفْظًا” لا تختص فقط بـ”السَّمَاءَ الدُّنْيَا”، ولكنها تتعلق بالأرض كذلك. ويتأكد ذلك، بالسياق الذي وردت فيه هذه الآية الكريمة، مع ما سبقها من آيات [فصلت: 9-12].

مصطلح “طَآئِفٞ”

يأتي هذا المصطلح، للتأكيد، من جديد، على حرف “الألف”، كـ”مؤشر دلالي”؛ إنه الحرف الذي يُعبر عن إحدى الظواهر في الرسم القرءاني؛ نعني مجيء اللفظ الواحد مرسوما بألف في موضع، وبغير ألف في موضع آخر. ومن المنطقي أن هذا الاختلاف في “المبنى”، يترتب عليه اختلاف في “المعنى”؛ وبالتالي، تختلف دلالات اللفظ بحسب اختلاف الرسم القرءاني لحرف الألف.

والمُلاحظ، في هذا المجال، هو اختلاف رسم لفظ “طَآئِفٞ” مع تثبيت حرف الألف في موضع، عنه في موضع آخر بغير الألف “طَٰٓئِفٞ”؛ وهو اختلاف، من حيث الرسم القرءاني، له دلالاته. ومعنى “طائف”، من الطواف، والطواف بالشيء الاستدارة به أو حوله، يُقال طاف بالشيء إذا دار حوله.

في الموضع الأول، يقول سبحانه: “فَطَافَ عَلَيۡهَا طَآئِفٞ مِّن رَّبِّكَ وَهُمۡ نَآئِمُونَ” [القلم: 19]؛ وهنا، لنا أن نلاحظ أن الفعل “طَافَ” قد أسند إلى “طَآئِفٞ”. أيضًا، فإن خاتمة الآية تُشير إلى حالهم “وَهُمۡ نَآئِمُونَ”.

ومن ثم، يبدو بوضوح أن البلاء الذي طاف حولهم ووقع بهم، هو بلاء مادي عضوي، وليس مجرد “طيف” يراه النائم كما يذكر البعض. وبالتالي، فإن “الألف” كمؤشر دلالي ثبت في الفعل “طاف”، إنما يؤشر إلى الجانب المادي العضوي للمصطلح القرءاني “طَآئِفٞ”.

في الموضع الآخر، يقول تعالى: “إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ إِذَا مَسَّهُمۡ طَٰٓئِفٞ مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ” [الأعراف: 201]؛ وهنا، لنا أن نلاحظ أن الفعل “مَسَّهُمۡ” قد أسند إلى “طَٰٓئِفٞ”. أيضًا، فإن خاتمة الآية تُشير إلى حالهم “فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ”، وذلك بعد أن “تَذَكَّرُواْ”.

ومن ثم، يبدو بوضوح أن التعبير عن ما “مَسَّهُمۡ… مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ” بأنه “طَٰٓئِفٞ”، هو إشعار بأن “وسوسة” الشيطان، وإن مست هؤلاء “ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ”، فإنها لم تؤثر فيهم، لأنها كأنها “طافت” حولهم دون أن تصل إليهم. وبالتالي، فإن “الألف” كمؤشر دلالي لم يتم تثبيته في الفعل “طاف”، إنما يؤشر إلى الجانب المعنوي الوظيفي للمصطلح القرءاني “طَٰٓئِفٞ”.

والأهم، في هذا الإطار، أن نلاحظ أن “طَآئِفٞ”، التي ثبت فيها حرف الألف، في الآية الكريمة الأولى [القلم: 19]، إنما يُرد إلى “مِّن رَّبِّكَ”؛ في حين أن “طَٰٓئِفٞ”، التي لم يثبت فيها حرف الألف، في الآية الكريمة الثانية [الأعراف: 201]، إنما يُرد إلى “مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ”. أيضًا، أن نلاحظ أن حرف الفاء في “تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ”، هي لتفريع الإبصار على التذكر، بما يؤكد أن ارتباط “فاء” التعقيب بـ”إذا” الفجائية الدالة على الحتمية، تؤشر إلى حصول مضمون جملتها دَفعة بدون تريث.. أي: إن الذين اتقوا، تذكروا تذكر ذوي عزم فلم تتريث نفوسهم بعد أن تَبين لها الحق الوازع عن العمل بالوسوسة الشيطانية، فإذا هم ثابتون على هداهم وتقواهم؛ حيث إن التذكر هو “استحضار المعلوم السابق”.

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock