عرف العالم للمرة الأولى ما يسمى “قوات حفظ السلام”، أو ما يسمى بـ”أصحاب القبعات الزرقاء”، في العام 1948.. ومنذ ذلك الحين، نفذت تلك القوات أكثر من سبعين عملية عسكرية، لحفظ السلام في أربع قارات من قارات العالم الست. وفي كل عام، ومع احتفال الأمم المتحدة باليوم العالمي لتلك القوات، التابعة للأمم المتحدة (الذي يوافق 29 مايو من كل عام)، يثور الحديث حول الهدف من تشكيل قوات حفظ السلام، والقوانين المُنظِمة لعملها، وأبرز النجاحات والإخفاقات التي مرت بها، وأسباب ذلك.
هذا فضلا عن الفضائح والانتهاكات التي تورطت فيها، والدور الذي تلعبه في عالمنا المعاصر، وما إذا كانت تؤدي مهام مستقلة ونزيهة – في الحقيقة- أم أن هناك من يستغلها لتحقيق أغراض معينة؟
تساؤلات منطقية
هذه التساؤلات وغيرها، تذكرنا بمقولة الشاعر الهندي طاغور: “إذا أوصدتم بابكم أمام الخطأ، فالحقيقة ستبقى خارجه”.
وأمام مقولة طاغور هذه، تتوالى التساؤلات المنطقية، التي يطرحها الواقع الممتد على مدى سنوات، من عمل تلك القوات.. فهل أفلح أصحاب القبعات الزرقاء في التصدي لاندلاع الحرب الأهلية في رواندا، التي راح ضحيتها أكثر من ثمانمئة ألف إنسان؟ وهل أفلحت قوات حفظ السلام في أن تقف في وجه جرائم القتل وعمليات النهب وتعذيب السجناء في الصومال، في التسعينات، وما بعد التسعينات؟ وفي الكونغو عام 2005 ألم يستدعَ عشرات العسكريين من حملة القبعات الزرقاء، لاتهامهم بارتكاب جرائم بشعة؟ وهل استطاعت قوات حفظ السلام أن تمنع القوات الإسرائيلية منذ عام 2006، وإلى الآن، من اجتياح الأراضي اللبنانية؟ وغير ذلك كثير.
لقد كشفت مراجعة داخلية أجريت عام 2014، لممارسات قوات حفظ السلام المتعلقة بحماية المدنيين- حقيقة مؤداها أن القوات فشلت في حماية المدنيين في أكثر من مناسبة، وهو ما أدى إلى غضب الدول التي تُموِّل الميزانية السنوية لعمليات حفظ السلام، التابعة للأمم المتحدة، بحوالي ثمانية مليارات دولار؛ في حين طالبت البلدان المشاركة بجنود في تلك القوات، برفع بدلات جنودها الذين يخدمون في بعثات الأمم المتحدة (قرابة ألف دولار شهريا).
وإذا اقتربنا أكثر من ملامح هذه القوات، سنجد أن بنغلاديش والهند وباكستان تتكفل بإرسال معظم القوات لبعثات حفظ السلام حول العالم، في حين تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وفرنسا أكبر الممولين لها. أما أكبر البلدان المساهمة بقوات في بعثة “أميسوم” (قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي AMISOM)، فهي: أوغندا وبوروندي وإثيوبيا وكينيا، فيما يأتي التمويل من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ومن ثم، فإنه غالبًا ما يكون الانفصال بين تلك الدول التي ترسل جنودًا، وتلك التي تمول البعثات، هو مصدر الصراع؛ ذلك أن الدول الغنية تنفق أكثر على “حفظ السلام”، في الوقت الذي ترسل فيه قوات قليلة نسبيًا، هذا في حين أن البلدان التي ترسل قوات، أو يتأثر مواطنوها مباشرة ببعثات حفظ السلام، فإن كلمتها كثيرا ما تكون غير مسموعة، في ما يتعلق بتشكيل القوات ومهامها.
ولا يتوقف الأمر عند حد الاختلافات بين الممولين والمشاركين؛ ولكنه يتعدى ذلك إلى وضعية قوات حفظ السلام نفسها، في البلدان التي تتواجد فيها، نعني بخصوص ممارسات هذه القوات.
يكفي أن نشير هنا، إلى الدراسة التي قامت بها “منظمة حماية الأطفال”، وهي منظمة غير حكومية (في: 27 مايو 2008) وهي الدراسة التي استندت إلى معلومات استمدتها عبر توجيه أسئلة إلى 250 من الأطفال والناشئة، و90 من البالغين، في كل من: السودان وهاييتي والكونغو وليبيريا وساحل العاج.
ومفاد الدراسة أن ممارسة الاعتداء الجنسي على الأطفال والفتيات القاصرات، منتشرة على نطاق واسع من جانب أصحاب القبعات الزرقاء، في المناطق المنكوبة بنزاعات مسلحة، والتي يستغاث فيها بهؤلاء من أجل إحلال السلام؛ حيث أشارت الدراسة إلى أن ذلك الاعتداء استهدف أطفالا في السادسة من العمر، وفتيات قاصرات، إما اغتصابًا، وإما استغلالا للفقر والجوع.
فهل من يُدعَون بـ”قوات السلام”، يمكن أن يمثلوا خطرًا على الأطفال والناشئة والفتيات القاصرات؟! وأين تقف العدالة والإنسانية من تصاعد اتهام القوات التابعة للمنظمة الدولية، التي تورّط فيها عناصر من أصحاب القبعات الزرقاء، ولُخِّصت حقائقها في سلسلة من فضائح فساد مالي، وفضائح جنسية، وتهريب الذهب والمعادن الثمينة، ومقايضتها بالأسلحة والمواد التموينية؟
ثم هل تكفي سياسة “عدم التسامح” التي أعلنتها المنظمة الدولية، إزاء التزايد في تقارير الانتهاكات، من جانب بعض عناصر تلك القوات في القضاء عليها والحد منها؟
فضائح وانتهاكات
في واقع الأمر، فإن كل يوم يمضي يأخذ معه جزءًا من الاحترام الباقي للذراع العسكري للأمم المتحدة؛ فبعد التحكم الظاهر من جانب القوى الخمس الكبرى (أصحاب الفيتو) الذين يتحكمون في حركة العالم، وبعد التساهل الواضح مع جرائم الحرب التي ارتكبتها وما تزال، القوة العسكرية الإسرائيلية في الأراضي العربية؛ يأتي الدور اليوم على قوات حفظ السلام الدولية، الذي طالما تبعته فضائح متنوعة، خاصة الجنسية منها، أينما رحل أو ارتحل.
إذ من الاغتصاب إلى الحصول على “الخدمات الجنسية” مقابل المواد التموينية، مرورا بفضائح الفساد المالي وتهريب المعادن الثمينة، بدأت الأسس التي بُنيت عليها هذه القوات في التراجع، وسط التساهل من جانب إدارة الأمم المتحدة نفسها، في التعامل مع تلك الانتهاكات، و/أوالحد منها.
والمثير للتأمل والدهشة، في آن، أن الأمم المتحدة نفسها اعترفت ببعض تلك الانتهاكات من جانب بعثاتها لحفظ السلام. هذا رغم محاولة المنظمة الدولية تصوير الأمر على أنه “تراجع” في أعداد البلاغات الخاصة بوقوع استغلال وانتهاكات جنسية.
ولعل الأسوأ في هذا الاعتراف المُشين، بانخفاض أعداد البلاغات، أن هذه البعثات لا تستخدم القوة في حماية المدنيين إلا في حالات نادرة جدًا؛ رغم أن مجلس الأمن الدولي يجيز لها استخدام القوة العسكرية من أجل هذا الغرض.
مُقايضة الفقر
ولنا هنا أن نشير إلى بعض الحقائق التي تضمنتها التقارير التي صدرت عن مكتب الأمم المتحدة لخدمات الرقابة الداخلية (OIOS). ففي تقرير صدر عن هذا المكتب (في: منتصف يونيو الماضي) تمت الإشارة إلى أن عناصر حفظ السلام حول العالم، يتعمدون الاستغلال الجنسي المنتظم. بل أكد التقرير على أنه: “من بين 480 اتهاما، تراوحت بين الدفع مقابل الجنس والاغتصاب، في ما بين عامي 2018 و2023، تبين أن أكثر من ثلث الضحايا (36 %) هم تحت سن 18 عاما”.
وهكذا.. فإن الحقيقة التي يثبتها التقرير تتلخص في أن أفرادًا من قوات حفظ السلام الدولية التابعة للأمم المتحدة، كانوا قد قايضوا البضائع بخدمات جنسية، في البلدان التي خدموا فيها، والتي كان من المفترض أن الأمم المتحدة تقدم لها مساعدات.
وماذا بعد؟
وبعد.. يبدو أن واقع قوات حفظ السلام، التي تعتمدها الأمم المتحدة ذراعا عسكريا لها، تستخدم في المكان والزمان الذي يحدده مجلس الأمن. هذا الواقع يسير في اتجاه التشكيك في جدواها، وجدوى الهدف من وجودها في الأساس.