مختارات

رد حماس بين نقاط القوة ومحاذير الضعف

بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري

نقلًا عن موقع عُمان

وصل طرفا الحرب المباشران، المقاومة الفلسطينية الباسلة ودولة العدوان والاحتلال إلى مرحلة مماثلة، كالتي جعلت هدنة وتبادل الأسرى في نوفمبر الماضي ممكنة. الإنهاك العسكري وإنهاك المجتمعين المتحاربين لأسباب مختلفة، وما يمليه ذلك من حاجة الطرفين الماسة إلى فرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب القوات والتسليح وحل مشكلات جوهرية.

المقاومة -رغم كل كذب ماكينة الدعاية الحربية الإسرائيلية الغربية وأبواقهم من بعض العرب- مشاكلها أقل ونقاط ضعفها محددة، بينما تتراكم مشاكل الطرف الإسرائيلي وتتعدد نقاط ضعفه وبالتالي حساباته، فيصبح في وضع المماطلة والعجز عن اتخاذ القرار الذي صار محط سخرية الجميع.

مشاكل إسرائيل معروفة وباتت مثار الحديث ليل نهار، خاصة بعد عجزها عن تحقيق هدف واحد من أهدافها في الحرب. وما قاد إليه ذلك من تزايد الشروخ في الطبقة السياسية الحاكمة وبين القيادة السياسية والقيادة العسكرية وداخل المجتمع الإسرائيلي، الذي لولا صدمة الحرب التي توحد مشاعره لقلنا إنه بلد على شفا حرب مجتمعية أهلية.

لكن ما لا يلقي الضوء عليه كثيرا هي حسابات المقاومة ونقاط ضعفها وقوتها، والتي مثل ردها على مقترح باريس للهدنة وتبادل أسرى جديد، انعكاسا دقيقا وذكيا لها.

بعد أربعة أشهر ونصف تقريبا من الصمود الأسطوري لفصائل المقاومة -التي لم تتلق أي دعم عربي أمام عدوان إسرائيلي يتلقى دعما عسكريا غير محدود من أمريكا وحلف الناتو – تبلور هاجسان مقلقان الأول عسكري والثاني شعبي.

الهاجس العسكري، هو هاجس مزدوج تمثل في تزايد القلق على قدرة المقاومة التي تركت لوحدها على الصمود لفترة قادمة أخرى، وتزايد القلق على مدى اقتراب جيش الاحتلال من الوصول إلى قادتها السبعة الكبار، وعلى رأسهم السنوار ومعهم مدى اقتراب جيش الاحتلال من أسراه المحتجزين في قبضة المقاومة.

رغم كل أكاذيب آلة الحرب الإسرائيلية، أكدت مصادر موثوقة للمقاومة لكاتب هذا المقال، أنها لم تخسر أكثر من ٢٥ إلى ٣٠٪ من قوتها البشرية والتسليحية، وأن عددا من كتائبها مثل كتائب رفح مازال بكامل قوته لم يخسر مقاتلا ولا سلاحا.

وإنها قادرة عمليا على مواصلة قتال حرب المدن والشوارع وهي حرب انهاك واستنزاف للعدو، بإلحاق أكبر قدر من الخسائر البشرية (نحو ٧٠٠ جندي وضابط قتلى ونحو ١٢ ألف جريح)، وأكبر قدر من الخسائر في المعدات (أكثر من ألف آلية عسكرية تشمل دبابات وجرافات وناقلات جنود ومعدات سلاح الهندسة الإسرائيلي).

الأهم من ذلك أن وسائل الإعلام الإسرائيلية وجنرالاتها السابقين المخضرمين هم من كذبوا مزاعم وزير الدفاع جالانت الذي زعم أنهم يقتربون كثيرا من مكان السنوار، وأن السنوار أصبح في حالة هروب مستمر وفقد وقادته نظام القيادة والسيطرة على قوات كتائب القسام.

ويدللون على ذلك ليس فقط باستمرار المقاومة في تكبيد العدو خسائر يومية موجعة، ولكن أيضا وصول رد حماس المحكم على مقترح باريس الذي تلاعب بأعصاب الإسرائيليين أسبوعا كاملا أخذوا وقتهم فيه بكل تمهل وتروٍ.

حسب مصادر المقاومة أيضا، هذا الرد الشامل لم يكن ليتم لولا أن التواصل بين قيادة حماس في الخارج مع السنوار وقيادة الداخل متواصل ومتدفق على مدى الـ٢٤ ساعة، وما يعنيه ذلك من هدوء أعصاب قيادة المقاومة في غزة وقدرتها على الرد على مقترحات باريس المركبة بين الهدنة والأسرى وسؤال اليوم التالي بهذا الشمول والتأني.

هذا لا يعني أن قدرة المقاومة عامة وحماس خاصة القتالية ومخزونها من السلاح لم يتضررا وأنهما في حاجة إلى فرصة استعراض وإعادة انتشار وترتيب أوراق ومواقع، ولكن هي ليست نقطة ضعف تجبرها على تقديم تنازلات فادحة في أي صفقة كما يأمل الأمريكيون والإسرائيليون.

بقي الهاجس الأكبر الذي يمثل نقطة ضعف لابدّ أن تأخذها حماس والجهاد والشعبية وهم يتشاورون معا حول الحد الذي يمكن أن ينزلوا إليه في مفاوضات هذه الصفقة.

هذا الهاجس هو الوضع الإنساني الكارثي لنحو مليونين من أهل غزة الأبطال، الذين تحملوا ويتحملون ما لم يتحمله شعب في التاريخ المعروف. فغزة التي عجز أشقاؤها حتى الآن عن إجبار أمريكا أن تأمر إسرائيل بوقف الحرب والتدمير رغم مرور ١٣٠ يوما على العدوان واستشهاد وإصابة أكثر من مائة ألف فلسطيني وتدمير ٩٠٪ من القطاع، هي نفسها غزة التي يعاني شعبها بسبب عجز عربي آخر عن إلزام أمريكا بإلزام إسرائيل بدخول المساعدات من مخاطر الموت جوعا أو مرضا أو بردا في عراء الشتاء القارس.

حماس والمقاومة لا تستطيعان تجاهل حاضنتهما الشعبية ولا تستطيعان سوى رد الجميل لوقوفها الجبالي معهما الذي فاق كل خيال والذي حطم كل محاولات واشنطن وإسرائيل لقلب الغزاويين على المقاومة، مستخدمين كل الطرق وكل الأطراف بما في ذلك -للأسف الشديد- روافع عربية وفلسطينية.

الناظر في رد المقاومة يستطيع أن يلمح بشكل لا لبس فيه أن هدفها الأول من عقد اتفاق الهدنة ذي الثلاث مراحل وتبادل الأسرى، هو تخفيف معاناة شعبهم الفلسطيني في غزة ورد الجميل لهم على احتضانهم المجتمعي للمقاومة ولعملها الجريء المظفر في ٧ أكتوبر.

كل الأقواس المفتوحة عن تفاوض لنقاط معقدة خلال مراحل التفاوض وعدم الإصرار على حسمها هي مستوى عال ومتقدم من المرونة السياسية تركها رد حماس فقط لكي يشجع على عقد الصفقة التي تخفف معاناة شعبها واستمرار الجمهور الفلسطيني في تأييد المقاومة نهجا وثقافة وسلاحا ورموزا.

هل هذا معناه أن إسرائيل والولايات المتحدة عثرا أخيرا على «كعب آخيل» المقاومة ونقطة ضعفها التي سيستغلونها حتى تقدم تنازلات مهينة تضيع نصر ٧ أكتوبر الاستراتيجي وتجعل تضحيات غزة وشعبها من دمار وقتل وضياع مدخرات عمر معظم السكان هباء وبلا ثمن؟

الجواب هو النفي؛ فحسب مصدر في المقاومة يوجه بوصلتنا فلسطيني من غزة استطاع الوصول للعلاج في القاهرة قائلا لأهل المقاومة: «فقدت أسرتي كاملة عن بكرة أبيها، ها هي فاتورة الدم قد دفعتها كاملة، فأين هو مكسب فلسطين ومكسب شعبها في غزة وفي كامل الجغرافيا الفلسطينية؟؟»، المعنى واضح وهو أن هذا الشعب نفسه الذي تضع المقاومة إنقاذه من التدمير والقتل والمجاعة والأوبئة هو نفسه الذي لن يقبل منها أن تقدم تنازلا استراتيجيا يضيّع تضحياته الجسيمة في أولاده وذويه.

المقاومة ستتفاوض وستقبل مثلا أن تنزل عن هدفها في إفراغ السجون الإسرائيلية من جميع الأسرى الفلسطينيين «نحو ٧ آلاف» وتقبل بنحو ٤ أو ٥ آلاف منهم مقابل الأسرى الإسرائيليين ولكنها لن تتخلى عن هدف أن يقود التفاوض في نهاية المراحل الثلاث أي بعد ١٣٥ يوما من عقد الاتفاق المزمع إلى نهاية الحرب وتدفق تام للمساعدات وإعادة الإعمار. المقاومة قد تقبل بالتنازل عن حكم غزة سياسيا ولكنها لن تقبل أن يبقى جندي إسرائيلي واحد محتل لقطاع غزة. كما أنها لن تتنازل لسلطة مؤقتة إقليمية ودولية ولكن ستتنازل لحكومة كفاءات وطنية متفق عليها وطنيا من المقاومة والسلطة الفلسطينية وبقية الفصائل. الأهم أن حماس والجهاد والشعبية لن توافق على نزع سلاح المقاومة قبل الوصول النهائي إلى حقوق الشعب الفلسطيني، أقله في دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو ٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock