رؤى

في ذكرى استشهاده.. خليل الوزير (أبو جهاد) مُخطط الانتفاضة الكبرى

يوشك عام 1987، على الانقضاء.. لا شيء يشي بما يبعث الأمل في جسد مثخن بالجراح.. جسد فلسطين الذي شارفت مأساته على إتمام عقدها الرابع، لا يصنع الأنين المكتوم لأبناء الأرض المحتلة، زلزالا تحت أقدام الغاصبين؛ لكنه ينثر أزهار الحرية في كل البقاع.. على مهل تبلل قطرات الندى المعمدة بسنوات النضال الطويلة، تلك النابتة التي تشق بعنفوانها صخر الواقع المرير؛ ليشهد يوم السابع من ديسمبر(كانون الأول) الانتفاضة الكبرى التي شملت كل شبر من أرض فلسطين.. شعب الجبارين لا يموت؛ بل يولد في كل لحظة ميلادا له من الاكتمال مثلما له من وهج البدء.. وها هو الجيل المتخلق في رحم المعاناة، والذي لامست روحه جحيم العالم عقب هزيمة حزيران، ينهض في الموعد تماما؛ يجيء على قدره، صادق العزم كأنما من صاعقة يندلع.. عندما أفاق الأعداء من هول الصدمة كانوا كالمجانين في البحث عن المسئول الأول  عن ذلك الرعب الذي صار خبزا يوميا مرا.. ثم جاءت كافة التقارير لتؤكد أن أبا جهاد السيد خليل الوزير هو من يقف وراء هذا الجحيم الفتّان.

صدر القرار حاسما.. التخلص من الوزير في أسرع وقت ممكن؛ إذ أفادت تقارير أخرى توالى صدورها أن الوزير كان خلف عدد كبير من العمليات التي استهدفت صهاينة داخل وخارج الأرض المحتلة، وكان اسم الشهيد البطل قد تردد بقوة أيام معركة الصمود التي استمرت أكثر من ثلاثة أشهر أثناء الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982.

أبو جهاد وعرفات
أبو جهاد وعرفات

كانت مدينة الرملة التي تقع على بعد38كم شمال غربي القدس الشريف قد شرفت بميلاد الوزير في 10 من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1935، ثم كان رحيله مع أسرته إلى غزة في عام النكبة، قبل انتقاله إلى مصر ليكمل تعليمه حتى تخرجه في جامعة الإسكندرية، ثم ينتقل بطلنا للعمل بالكويت التي ظل بها حتى عام1963، وهو العام الذي شهد تأسيس حركة فتح على يديه هو والزعيم ياسر عرفات.

غادر السيد خليل الكويت في نفس العام مرتحلا إلى الجزائر؛ ليفتتح أول مكتب لحركة فتح، وليتولى من خلال هذا المكتب الإشراف على تدريب كوادر الحركة، وإعداد معسكرات التدريب للشباب الفلسطيني المتواجد بالجزائر.

بقى أبو جهاد بالجزائر قرابة العامين؛ ثم غادرها إلى دمشق ليتولى مسئولية الاتصال والتنسيق مع العناصر الفدائية بالداخل الفلسطيني، وكان من ثمار عمله.. تلك الضربات الموجعة التي وجهت لجيش الاحتلال في منطقة الجليل الأعلى أثناء حرب حزيران1967، بعد ذلك أصبح الوزير مسئولا عن القطاع الغربي في الحركة.

في عام 1982، وأثناء الاجتياح الصهيوني للبنان شارك أبو جهاد بدور بارز في معركة الصمود التي استمرت نحوا من ثلاثة أشهر.. ثم تولى الشهيد عددا من المناصب منها عضوية المجلس الوطني الفلسطيني، وعضوية المجلس العسكري الأعلى للثورة، وعضوية المجلس المركزي لمنظمة التحرير.. ثم نائبا للقائد العام لقوات الثورة.

سارع الأعداء بتحديد يوم 16 أبريل (نيسان) من العام 1988،  ليكون يوما لتنفيذ عملية الاغتيال التي شاركت فيها عدة طائرات من طراز بوينج 707 وفق رواية الصحفي الإيرلندي جوردون توماس التي أوردها في كتابه “انحطاط الموساد” وقد أقلعت تلك الطائرات من إحدى القواعد العسكرية جنوبي يافا، وكان على متن إحداها إسحق رابين وزير الدفاع آنذاك، وبصحبته عدد من كبار الضباط، وهو من أصدر الأمر بالتنفيذ في تمام الثانية عشرة وسبع عشرة دقيقة، ضم فريق الاغتيال أيضا موشيه يعالون الذي سيصبح بعد ذلك وزيرا للأمن الصهيوني، وهو من أعلن في 2017، أنه كان أحد منفذي العملية، وأنه أجهز على أبي جهاد برصاصة استقرت في رأسه.

تروي السيدة أم جهاد وقائع تلك الليلة الدامية، فتقول أن عدد المهاجمين قد جاوز العشرين، وأنهم تركوا في جسد الشهيد نحو سبعين رصاصة تعبر عن خستهم التي لا نظير لها، وكانت أنباء قد تواترت بعد ذلك أن نائب رئيس الأركان الصهيوني آنذاك المدعو “إيهود باراك” هو من تولي التخطيط وقيادة العملية ومتابعتها من أحد الزوارق قبالة الشاطئ التونسي، كما شارك في التخطيط “أمنون شاحاك” رئيس الاستخبارات.

لم يعترف الكيان الصهيوني بتلك الجريمة النكراء التي أدينت من جميع الأطراف حتى الولايات المتحدة، كما وافق مجلس الأمن على القرار 611 الذي يشجب “العدوان الذي ارتكب ضد السيادة وسلامة الأراضي التونسية” دون أي إشارة لدويلة الكيان.. لكن صحيفة معاريف كشفت تفاصيل العملية في عددها الصادر في الرابع من يوليو1997، ولم تكذب أي جهة رسمية صهيونية ما نشرته الصحيفة التي ذكرت “أن من نفّذ العملية وحدات كوماندوز خاصة تابعة لهيئة الأركان، وهي الأقوى في جيش الدفاع، وصُنّفت العملية كعملية عسكرية واسعة النطاق، ونقل المشاركون في الجريمة على متن أربع سفن، من بينها اثنتان نقلت عليهما مروحيتان، لاستخدامهما في حالة الاضطرار لعملية إخلاء طارئة إذا حدث أي خلل أو طارئ غير متوقع”.

الانتفاضة الفلسطينية
الانتفاضة الفلسطينية

في الأول من نوفمبر 2012، نشرت يديعوت أحرونوت تحقيقا صحفيا يؤكد أن جيش الدفاع كان وراء اغتيال أبي جهاد في عام 1988، رغم الإنكار الرسمي الذي استمر لنحوٍ من ربع قرن.. ويعد هذا الإقرار بتلك الجريمة النكراء مبررا قانونيا لبدء إجراءات الملاحقة لكل المشاركين في عملية الاغتيال، وعلى رأسهم إيهود باراك الذي ظهر في 2017، في عدد من المحافل الدولية؛ كأحد دعاة إقرار عملية السلام في الشرق الأوسط!

وقد نشرت الصحيفة مقابلة مع ناحوم ليڤ الضابط المتقاعد نائب قائد وحدة النخبة العسكرية (سييرت متكال) التي نفذت الاغتيال، قبل أن يقضي في حادث طرق عام 2000. ونقلت الصحيفة عن ليڤ اعترافه بأنه كان الجندي الثاني الذي أطلق النار على «أبو جهاد» قبل أن ينضم الجنود الآخرون إلى إطلاق النار للتأكد من أنه لم يعد على قيد الحياة.

كانت اللحظة التي أعلن فيها استشهاد الوزير قد شهدت مصادمات عنيفة بين الشباب الفلسطيني، وقوات الاحتلال أسفرت عن استشهاد 24 بطلا فلسطينيا ولم يعلن العدو عن خسائره في تلك المصادمات، والتي تشير بعض التقارير إلى أنها كانت كبيرة.

لم تزد تلك الجريمة النكراء، شعبنا العربي الفلسطيني في الأرض المحتلة إلا إصرارا على المضي قدما في طريق النضال؛ حتى تحرير كامل الأرض العربية؛ لِيُسقطَ الشعب الفلسطيني عبر تاريخ نضاله الطويل وكفاحه الأبي- كل دعاوى الاستسلام والخنوع التي لم تصمد أمام الاعتداءات الصهيونية على الأرض العربية؛ ليس في فلسطين وحدها بل في كل دول الطوق.

وتتواصل قوافل الشهداء يوما بعد يوم؛ لتؤكد على أن القضية الفلسطينية (قضية العرب المحورية) لن تموت أبدا،  مهما تخاذل المتخاذلون، وتواطأ المتواطئون، وكشف العملاء عن حقيقتهم، بالسير علانية في ركاب التطبيع، تحت شعارات السلام المزعوم؛ ليبقى شعب الجبارين في طريق الصمود سائرا ثائرا حتى يتحقق الوعد.. وما هو على الله ببعيد.

رحم الله الشهيد البطل خليل الوزير ورحم كل شهدائنا الذين يروون شجرة النضال العربي ضد الصهاينة الغاصبين بدمائهم الطاهرة موقنين بالنصر مهما طال الزمن.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock