باعتبار أن الحرب الباردة ترتكز على تقاطع السياسات الاستراتيجية للقوى الدولية الكبرى، بخصوص تقاسم النفوذ حول العالم، يبدو في رأي الكثيرين أن حربًا باردة ترتسم ملامحها بين الولايات المتحدة الأمريكية، وكلٍ من روسيا والصين، على خلفية التوتر الحاصل بين هذه الأطراف الثلاثة، منذ أن أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية، من خلال نشر “استراتيجية الدفاع الوطني لعام 2022″، رؤية واشنطن للأولويات الدفاعية والتهديدات المُلحة التي تواجه البلاد في المرحلة المقبلة.
فهل هي عودة إلى الحرب الباردة، تلك التي عايش العالم وقائعها وتداعياتها، قبل انهيار المنظومة السوفياتية؟؛ أم إن ما نعاصره في الراهن يُعبر عن ملامح لحرب باردة جديدة؟؛ أم إن ماجريات الأحداث تؤشر إلى بدايات التحول في النظام الدولي، نحو وضعية قطبية تختلف عن تلك التي عرفها العالم في القرن العشرين الفائت؟!.
في نظرنا، فإن ملامح المرحلة القادمة سوف ترتسم عبر عدد من السياسات الاستراتيجية، الخاصة بما يُمكن أن نُطلق عليه “مثلث القيادة” في النظام الدولي؛ وهي السياسات التي تدل عليها عدة مؤشرات.
ولعل أهم هذه المؤشرات، هي ما يتعلق بالقوى الرئيسة على الساحة الدولية الراهنة.
فهناك المؤشر الذي يختص بإعلان “استراتيجية الدفاع الوطني الأمريكية”، في ظل تصاعد التحديات التي تواجه صانع القرار الأمريكي، في مناطق النفوذ المختلفة، لاسيما من جانب روسيا والصين. وعبر هذه الاستراتيجية، اعتبرت الصين التهديد الأكبر، والأكثر خطورة، للولايات المتحدة؛ وفي الوقت نفسه، اعتبرت الاستراتيجية الأمريكية أن روسيا تأتي كـ”تحدٍ عالمي”، أو تحديدًا “تهديد حاد للنظام العالمي”.
ففي الوقت الذي قامت فيه وزارة الدفاع الأمريكية بتسليط الضوء على آليات الحفاظ على الأمن القومي الأمريكي، في أقاليم العالم المختلفة؛ أكدت على مساعي بكين لإعادة تشكيل منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وكذلك النظام الدولي الحالي.. أيضا فقد أشارت الوزارة، في استراتيجيتها، إلى أن التطورات الأخيرة في أوكرانيا، تكشف عن التهديد الروسي للأمن العالمي، لاسيما عبر استخدام القوة لفرض تغييرات حدودية، فضلا عن المحاولات الروسية في تمزيق، أو الدفع إلى تمزيق، حلف شمال الأطلسي “ناتو”.
فإذا أضفنا إلى ذلك، وثيقة “مراجعة الموقف النووي” التي أصدرتها وزارة الدفاع الأمريكية، أيضا، ولكن قبل أربعة أعوام، في أوائل فبراير عام 2020، لنا أن نلاحظ كيف تُقدم الوثيقة صورة قاتمة عن العالم؛ بل وتُسلط الضوء على جوانبه المليئة بالتهديدات، بشكل يبدو معه أن شاغل واضعيها هو إظهار تقدم خصوم الولايات المتحدة عليها؛ أولئك الذين تحددهم الوثيقة بكل من روسيا والصين، فضلا عن كوريا الشمالية. لنا أن نلاحظ، كذلك، أن الوثيقة لا تسعى إلى تقليص الاعتماد على الأسلحة النووية؛ بل إنها، على العكس، تستهدف الدخول في منافسة نووية معهم، عبر تطوير أسلحة نووية أصغر حجمًا. إذ إن القنابل النووية الأكثر قوة، كما تُلمح الوثيقة، تُعَّد كارثية جدًا، ولن تنجح كسلاح رادع. وبالتالي، فإن التطوير المستهدف سوف يوفر “ردع” روسيا ـ والصين ـ عن التفكير في استخدام الأسلحة النووية.
أيضا، هناك المؤشر الذي يتعلق بالمنافس العسكري “الحقيقي” للقوة الأمريكية، روسيا؛ التي لا تزال تُسيطر على واحد من أكبر مخزونات العالم من الأسلحة النووية، والتي تمتلك صناعات عسكرية يشهد العالم لها بتقنياتها عالية الدقة، والمنافسة لنظيرتها الأمريكية.
وهنا، لنا أن نلاحظ كيف عادت العلاقات الأمريكية الروسية إلى سابق عهدها، سواء بشكل مباشر عبر الأزمة الديبلوماسية الأخيرة بينهما، أو بشكل غير مباشر كما حصل في أوكرانيا ويحدث في شبه الجزيرة الكورية، وصولا إلى منطقة الشرق الأوسط. والأهم، هو الكيفية التي تمكّن بها الروس من استغلال “الفرصة التاريخية” للتراجعات ـ النسبية ـ الأمريكية، بشأن أكثر من ملف حول العالم، وذلك لـ”التقدم” على مستوى أكثر من ساحة دولية.
فالتقدم صوب الساحة السورية، كمثال، ومن ثم التحكم في أهم مسارات هذا الملف، كان قد اعتمد “مبدأ بوتين”، الذي يقضي بتوسيع قوات الاتحاد الروسي في أنحاء العالم، حيث تستدعي المصالح الروسية ذلك. ولعل هذا المبدأ، نفسه، كان أحد النتائج لانتشار قوات حلف ناتو على حدود الاتحاد الروسي، في دول البلطيق، وفي بولندا. بل، إن روسيا لم تكتف، فقط، بالساحة السورية، فضلًا عن تواجدها في ليبيا؛ لكنها نجحت، كذلك، في الانفتاح على القوى الإقليمية الرئيسة في الشرق الأوسط؛ ما ساهم في تمكنها من تحقيق صيغة “توافق” بين هذه القوى المتعارضة، حول بعض الملفات الساخنة. وبكلمة، فإن روسيا تلقفت الفرصة التاريخية لغياب – أو، في الحد الأدنى، ارتباك – السياسة الأمريكية الواضحة، لتستعيد تواجدها في أكثر مناطق العالم التهابًا.
كذلك، هناك المؤشر الذي يستند إلى الصعود المتنامي للضلع الثالث من “مثلث القيادة” في النظام الدولي، الصين؛ تلك التي تُمثل واحدًا من أهم التحديات أمام المحاولة الأمريكية في الهيمنة على العالم.
إذ، استفادت الصين من الانشغال الأمريكي بانتصارات وهمية في أفغانستان والعراق، وغيرهما، فانتهجت سياسة البناء الهادئ؛ حتى أصبح اقتصادها منافسًا حقيقيًا لنظيره الأمريكي، إلى الدرجة التي وصل فيها الميزان التجاري بينهما ـ الذي يُقارب نصف مليار دولار سنويًا ـ إلى أن يكون في صالح الصين، بفارق ليس بالقليل. هذا، فضلًا عن تحديث الصين لقواتها العسكرية، وإنشائها أسطولا بحريًا وجويًا، ناهيك عن زيادة نفقاتها العسكرية إلى ما يُقارب 260 مليار دولار؛ وهو ما يعني أن الصين قد استفادت من النجاحات الاقتصادية الكبيرة، في تطوير قدراتها العسكرية.
وإذا كان الإنفاق العسكري الصيني، كما هو واضح، مُصمم لتحدي الجيش الأمريكي لأسباب متعددة، في مقدمتها قضية جزيرة تايوان، التي تعتبرها واشنطن بمثابة “الضاغط” على بكين والحد من طموحاتها؛ إلا أن الصين لا تُخطط لهزيمة الولايات المتحدة عسكريًا، بقدر ما تستهدف جعل الحرب باهظة التكلفة إلى الدرجة التي يستبعد فيها التلويح بالخيار العسكري تمامًا من جانب أية إدارة أمريكية.
وفي ما يبدو، هكذا، فإن المؤشرات السابقة تؤكد على أن القوة العسكرية، التي هي مناط التفوق الأمريكي وموئله، لن تجد سوى الحروب “الإقليمية”، في الإطار الجنوبي من العالم، وجهة وميدانًا ومختبرًا. ومن ثم، فتفوقها العسكري لا يدخل ـ بالضرورة، أو بشكل حاسم ـ في توازنات القوة، خاصة مع روسيا والصين.
ما نعاصره، إذن، هو بدايات التحول في النظام الدولي، نحو وضعية قطبية تختلف عن تلك التي عرفها العالم في القرن العشرين الفائت عمومًا، وخلال فترة العقدين السابقين تحديدًا؛ تلك الفترة التي حاولت فيها الولايات المتحدة فرض هيمنتها على تفاعلات الساحة الدولية. أما أوروبا وما يتعلق بجوهر التحولات فيها، فهي تجري في إطار استقرار النظام الإقليمي (الأوروبي)، واستبعاد أي تغيرات عنيفة، مثلما هو الحال في منطقة الشرق الأوسط.
ولعل هذا نفسه ما يوضح نزوع القوى الرئيسة هناك إلى إعادة الانفتاح على الولايات المتحدة الأمريكية، واستبعاد منطق المنافسة معها؛ بل والانجرار ورائها في أوكرانيا، في محاولة لكفكفة الدب الروسي عن التقدم تجاهها.