في مديح أن تكون عاديا.. ليس لديك انتصارات كبيرة؛ لا تنظر خلفك في غضب، ولا تأسى على شيء؛ لكن قلبك مفعم بالمودة لكل المخلوقات.. تنتزع لحظات سعادتك الخاصة جدا من تفاصيل عديدة على مدار سعيك اليومي، دون اكتراث بالتجاهل أو نظرات الإشفاق؛ لأنك صنعت عالمك على نحو بالغ الروعة من الرُّقي والبساطة؛ ربما على سبيل المناوءة المحمودة لهذا الإيقاع المتسارع البغيض الذي صار يدهمنا -كل لحظة- بلا رحمة.. بينما تقف من حولك شواهد الحضارة الحديثة غير عابئة بك، تبادلك نفس الشعور الذي توجهه نحوها.. ليس على سبيل التحدي؛ بل على نحو من الاستغناء العميق.. أو نحو ذلك مما حاول المخرج الألماني ويم فيندرز أن يتحف به وعينا في أحدث روائعه فيلم “أيام مثالية”.
في الفيلم تماهت رؤية المخرج الالماني مع تفاصيل الحياة اليابانية على نحو مذهل.. تلك الحياة التي يجرف الحنين إليها كثيرا من اليابانيين اليوم.. بعد حالة التشبع التام بالحداثة الغربية ومنتوجاتها القيمية.. فمن خلال شخصية هيراياما- أداها على نحو شديد العمق والبساطة الممثل كوجي ياكوشو- بطل الفيلم الذي يعمل في تنظيف المراحيض العامة، ويتبع روتينا يوميا يبدو صارما- يغزل فيندرز حيلة بالغة الذكاء تتجلى تفاصيلها في اكتشاف هيراياما لذاته من خلال التفاعل الهادئ مع محيطه بكل ما فيه من مخلوقات.. الجار الذي يستيقظ مبكرا خارجا إلى الشارع في ضوضاء محببة، والمساعد الذي يحاول استمالة قلب صديقته بشتى الوسائل؛ خشية أن تضيع من يده، فيقضي عمره وحيدا؛ فيتحول إلى هيراياما آخر.. الأصدقاء المسنون في الحمام العام الذي يغتسل فيه يوميا من عناء العمل، سيدة البار التي تحتفي به كثيرا بوصفه رجلا يخلص ويتفانى في عمله بلا حدود، ابنة أخته التي انقطعت صلته بها منذ فترة طويلة، حين تقتحم الفتاة حياته بعد خلاف مع والدتها؛ فتعطي لتلك الحياة طابعا جديدا مختلفا له سحره؛ نكتشف بعد ذلك أن الأخت سيدة أعمال بالغة الثراء؛ وعندما تأتي لتأخذ ابنتها، تقدم له هدية، كأنما هي نصل مسموم ينغرس في قلبه، بعد سؤالها المستهجن عن طبيعة عمله.. وعندما ترحل ينفجر هيراياما باكيا وقد صفعته الأخت القاسية باستعلائها المريض.
وفي لفتة واضحة للشعور القوي بالحنين إلى الماضي (نوستالجيا) يواظب هيراياما على سماع الأغاني الغربية القديمة على شرائط الكاسيت التي عادت لتكون “موضة” عند الجيل الجديد من اليابانيين؛ ليحصل على قبلة بريئة من صديقة مساعده تقديرا لرقيه وذوقه الفني وتواصله الإنساني المتقد رغم صمته وعزوفه عن الكلام الذي يشي للبعض بأنه أبكم.
ليست الموسيقى والأغاني القديمة فحسب هي ما يستهوي بطلنا، هو أيضا مولع بالقراءة لويليام فولكنر وباتريشيا هايسميث وغيرهما.. لكنه لا يشتري الكتب الجديدة؛ لأنه يفضل ارتياد متجر معين يبيع الكتب المستعملة، كما أنه يهوى تصوير أغصان الأشجار العالية بكاميرا قديمة لا تعطي نتائج جيدة بالأبيض والأسود، فيضطر هيراياما إلى التخلص من أكثرها، ويحتفظ بالجيد منها في صناديق خاصة داخل خزانة في شقته الصغيرة التي تضم شرفة تحفل بأنواع من النباتات نقلها إليها من الحدائق العامة، فيما يشبه عمليات الإنقاذ.
وبالرغم من أن فيندرز قد استطاع إقناع المشاهد بوجهة نظره ببهاء حياة الهامش الهادئة الوادعة؛ إلا أنه اختار نهاية قوية شديدة الإيحاء تشي بالفكرة بقوة الضربة الأخيرة، عندما يرى هيراياما مالكة البار تعانق شخصا ما؛ فإذا به يلتاع كأنه عاشق مغدور.. وكأن حبا عميقا لهذه السيدة فاجأه على نحو من المباغتة القاسية التي دفعت هذا الشخص لتعقبه إلى الساحل، حيث كان هيراياما يحاول تدخين سيجارته التي ربما كانت الأولى، أو تلك التي عاد إليها بعد انقطاع طويل؛ ليدور بين الرجلين حوار عن المرأة وعلاقة الرجل بها.. ثم الحوار الأهم في الفيلم عن الظلال عندما تتقاطع، هل يكون الظل أكثر قتامة؟ في إشارة واضحة إلى الوحدة التي يفضلها البعض على الحياة الصاخبة وسط الناس.. ثم المباراة الرائعة لمطاردة الظلال في نهاية الفيلم.. قبل أن نعود المشاهد الاعتيادية في حياة هيراياما للمثول من جديد.
ربما يحاول ويم فيندرز تنبيهنا إلى إمكانية استعادة حيواتنا المسلوبة، عن طريق إعادة النظر في تلك المقايضة المجحفة مع التكنولوجيا التي منحتنا التسلية والترفيه والرفاهية والمتعة السريعة؛ في مقابل ذواتنا التي غربتنا عنها، وباعدت بينها وبيننا حتى صرنا في تيهٍ تتناوشنا الهموم في سباق محموم مع تطورها المتسارع وإنجازاتها الهائلة.
“أيام مثالية” دعوة للهرب من واقع مرير ومصير مؤلم ينتظر البشرية، كما يقدم نموذجا مثاليا للنجاة بعيدا عن اقتراف العزلة، كما يرفض الاستسلام للانخراط في حياة تحكمها قوانين السوق الظالمة التي تمسخ كل شيء وتحيل ألوان الوجود المبهجة، إلى لون الرماد الذي يخفي الملامح ولا يرتاح إلى للنمط السائد المقلد شديد الزيف.
“أيام مثالية” مغامرة سينمائية غير محفوفة بالمخاطر؛ لكنها قادرة على التربيت بحنو بالغ على أرواحنا المعذّبة، بجمال أخاذ لا تخطئه عين المحب.