رؤى

الرسم “القرءاني”.. ودلالة مصطلح “يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ”

في آيات التنزيل الحكيم، ورد مصطلح “ٱلۡقِيَٰمَةِ” في “70” موضعًا، وفي كل هذه المواضع ورد المصطلح محذوف حرف الألف، أي رسمًا قرءانيًا لم يثبت حرف الألف، وكما أشرنا في مرات عديدة من قبل، يأتي حرف الألف ليُعبر عن إحدى أهم الظواهر الدلالية في الرسم القرءاني، لآيات التنزيل الحكيم.

إذ، يأتي حرف “الألف”، ليؤشر إلى اختلاف دلالة المصطلح باختلاف الرسم القرءاني لهذا الحرف؛ ففي حال التثبيت، يأتي الألف للدلالة على الجانب المادي العضوي؛ وأما في حال لم يثبت الحرف، دلّ المصطلح على الجانب المعنوي الوظيفي.

يتحدد المعنى اللساني لمصطلح “ٱلۡقِيَٰمَةِ”، من جذره “يقوم” أو “قام”؛ قام يقوم قوامًا، وقيامًا، إذا انتصب ووقف؛ والقيام والقوام “اسم لما يقوم به الشيء”، والقومة، المرة الواحدة. ومن المنظور الدلالي، يؤشر “القيام” إلى المقدرة أو العزيمة؛ وكما يُقال “قام بهذا الأمر” إذا اعتنقه أو اهتم به واستطاع إنجازه.

و”ٱلۡقِيَٰمَةِ” مصطلح أصله ما يكون من الإنسان من القيام دفعة واحدة؛ ومن مشتقاتها التي وردت في القرءان الكريم، يقوم (54 مرة)، قام (43 مرة)، قاموا (14 مرة)، قائم (15 مرة)، قائمًا (5 مرات)، قائمون (مرة واحدة)، قائمة (5 مرات). أما مصطلح “ٱلۡقِيَٰمَةِ” فقد ورد في “70” موضعًا في أيات التنزيل الحكيم.

والمُلاحظة الأهم، أن مصطلح “ٱلۡقِيَٰمَةِ”، يأتي في كل مواضع وروده مسبوقًا بلفظ “يَوۡمُ”، ليُصبح المصطلح القرءاني”يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ”. بل، إن القرءان الكريم يتضمن سورة باسم مصطلح “ٱلۡقِيَٰمَةِ”، وقد ورد فيها مصطلح “يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ” مرتين، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: “لَآ أُقۡسِمُ بِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ ٭ وَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلنَّفۡسِ ٱللَّوَّامَةِ ٭ أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَلَّن نَّجۡمَعَ عِظَامَهُۥ ٭ بَلَىٰ قَٰدِرِينَ عَلَىٰٓ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُۥ ٭ بَلۡ يُرِيدُ ٱلۡإِنسَٰنُ لِيَفۡجُرَ أَمَامَهُۥ ٭ يَسۡـَٔلُ أَيَّانَ يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ” [القيامة: 1-6].

وكما يبدو بوضوح، فإن السياق في هذه الآيات الكريمة يأتي ليؤكد على الجانب الوظيفي لما يتضمنه “يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ”؛ سواء في ما يخص الجانب الإلهي: “بَلَىٰ قَٰدِرِينَ عَلَىٰٓ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُۥ”، أو ما يتعلق بالجانب الإنساني: “يَسۡـَٔلُ أَيَّانَ يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ”.

وهنا، نجدها فرصة لانتقاد ما ذكره كثير من المُفسرين، القدماء والمُحدثين، من أن “لا” في مُفتتح الآية الكريمة هي “صلة زائدة، والمعنى: أُقسم بيوم القيامة”؛ ومثل هذا القول ليس عندنا بشيء، بل هو “ضعيف جدًا”، فلا زيادة، أو نقصان، في أحرف أو ألفاظ القرءان الكريم. والأهم، أن جعل النفي إثباتًا، أو الإثبات نفيًا، بحجة أن هذا نقصًا أو زيادةً، هو “طعن” في القول الإلهي. ولنا أن نُلاحظ، تأكيدًا على رأينا هذا، أن القسم الإلهي في آيات الذكر الحكيم، لا يأتي في صيغة النفي، ولكن في صيغة الإثبات؛ مثل قوله سبحانه: “وَٱلذَّٰرِيَٰتِ ذَرۡوٗا… وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلۡحُبُكِ” [الذاريات: 1&7]؛ وقوله تعالى: “وَٱلطُّورِ ٭ وَكِتَٰبٖ مَّسۡطُورٖ” [الطور: 1-2]. أما صيغة “لَآ أُقۡسِمُ” فهي ليست قسمًا ولكن نفيًا عن القسم الإلهي.

تتحدد وظيفية مصطلح “ٱلۡقِيَٰمَةِ”، أو بالأحرى “يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ”، ليس فقط عبر ورود المصطلح محذوفًا منه حرف الألف، أو بالأصح دون تثبيت حرف الألف؛ ولكن أيضًا عبر السياق القرءاني الدال في هذا الإطار.

فمن جانب، يبدو الجانب الوظيفي، في التعبير القرءاني “إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ”، الذي يؤشر إلى أن “يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ” هو نقطة الوصول بالنسبة إلى استمرارية ما سبقه من “فعل”؛ وأنه يتضمن في الوقت نفسه، فعلًا إلهيًا يأتي تاليًا له، أي تاليًا لورود مصطلح “يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ”.

ففي قوله سبحانه: “إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَىٰٓ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوۡقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ فِيمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ” [آل عمران: 55]؛ يأتي “الفعل” السابق لـ”إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ”، من خلال الجعل الإلهي لـ”ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوۡقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ”. أما الفعل الإلهي التالي، في “يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ”، فيتمثل في الحكم الإلهي “فَأَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ فِيمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ”. وفي كلا الحالين، يكون الفعل السابق لـ”إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ”، أو اللاحق عليه، مؤشرًا على وظيفية مصطلح “ٱلۡقِيَٰمَةِ”، أو “يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ” بالأحرى.

وهو تمامًا، يتأكد في قوله تعالى: “وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰٓ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَهُمۡ فَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَأَغۡرَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَاوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ وَسَوۡفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ” [المائدة: 14]. إذ، لنا أن نلاحظ أن وظيفية “يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ”، تتبدى من حيث كونه نقطة وصول للفعل المستمر من قبله “فَأَغۡرَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَاوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ”؛ ثم، من حيث كونه يومًا للفعل الإلهي المتمثل في “وَسَوۡفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ”.

وبالتالي، ونتيجة لهذه الوظيفية لمصطلح “يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ”، فقد ورد “ٱلۡقِيَٰمَةِ” محذوفًا منه حرف الألف، للدلالة على الجانب الوظيفي للمصطلح.

من جانب آخر، يبدو الجانب الوظيفي، في ورود التعبير القرءاني “إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ”، بين التقدير الإلهي “لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ”، وبين التأكيد الإلهي “لَا رَيۡبَ فِيهِۗ”. ولنا أن نُلاحظ، هنا، أن السياق القرءاني “لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۗ”، لا يتضمن أي حذف، كما قال بعض المفسرون القدماء، مثل الرازي والقرطبي وغيرهما، وأن هذا الحذف يتضمن تعبير “المحشر”؛ وهو قول ليس عندنا بشيء، لأن التعبير القرءاني يرتقي باللفظ إلى مرتبة المصطلح، أي تطابق الدال مع المدلول؛ بمعنى أن التعبير القرءاني لسانيًا لا يتضمن أي حذف.

أضف إلى ذلك، أن “الجمع” ليس جمعًا في المكان، وإلا كان من الواجب، والمنطقي، ذكر هذا المكان كـ”دليل مادي”؛ وإنما “الجمع” المقصود، هنا، هو الجمع “إلى الزمان المُحدد”، بدليل أن التعبير القرءاني “لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ”، يُرد إلى “يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ”، وأن هذا الأخير هو “لَا رَيۡبَ فِيهِۗ”. وبالتالي، يكون الجانب المقصود من المصطلح، هو الجانب الوظيفي وليس المادي؛ ومن ثم، ورد مصلح “ٱلۡقِيَٰمَةِ” دون تثبيت حرف الألف.

تتحدد أهم دلالات مصطلح “ٱلۡقِيَٰمَةِ”، أو “يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ”، في آيات التنزيل الحكيم، بما يتضمنه هذا “اليوم” من قيام العباد لرب العباد، أيًا كان موقف أولئك العباد من رب العباد، إيمانًا أو كُفرًا. فهذا اليوم “يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ” هو “اليوم الذي يأتي بعد نهاية الحياة الدنيا، وهلاك جميع الأحياء”، بدلالة قوله سبحانه وتعالى: “كُلُّ مَنۡ عَلَيۡهَا فَانٖ ٭ وَيَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ” [الرحمن: 26-27]؛ وفي هذا اليوم “يُبعث جميع الخلائق للوقوف بين يدي ربهم، لمحاسبتهم على ما قدموه من أعمال”.

ولمزيد من الدلالة على “وظيفية” هذا اليوم، بوصفه مصطلحا ورد في آيات التنزيل الحكيم دون تثبيت حرف الألف، للإشارة إلى الجانب الوظيفي لـ”يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ”، يأتي قوله عزَّ وجل: “… أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضٖۚ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفۡعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمۡ إِلَّا خِزۡيٞ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰٓ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِۗ …” [البقرة: 85]؛ وقوله عزَّ من قائل: “وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا” [الإسراء: 13].

ففي الآية الأولى [البقرة: 85]، لنا أن نُلاحظ أن التعبير القرءاني “يُرَدُّونَ إِلَىٰٓ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِۗ”، هو دلالة واضحة على وظيفية “يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ”، فمن خلاله “يُرَدُّونَ” إلى هذا العذاب “جَزَآءُ” لهم على إيمانهم “بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَٰبِ” وكُفرهم “بِبَعۡضٖۚ”. وفي الآية الأخرى [الإسراء: 13]، لنا أن نُلاحظ أن التعبير القرءاني “نُخۡرِجُ لَهُۥ… كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا”، هو دلالة واضحة أيضًا على وظيفية “يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ”، وتأكيد لها. ولذلك، ورد المصطلح دون تثبيت حرف الألف،  بوصفه مؤشرا دلاليا على الجانب الوظيفي لمصطلح “ٱلۡقِيَٰمَةِ”، أو “يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ”.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock