رؤى

لماذا تحاول الجزائر محاصرة دور “فاغنر” في مالي؟

مع انحسار الدور الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقي، – خاصة في دولة مالي- تنامى الدور الجزائري في إدارة ملفات الأزمة هناك، لاسيما أن الجزائر ترتبط مع مالي بحدود طويلة، ما يجعل من الجارة الجنوبية عمقا استراتيجيا للجزائر.

هذا التجاور الجغرافي لمالي مع الجزائر، ومدى تأثيرها على الأمن القومي الجزائري، دفع الرئيس عبد المجيد تبون إلى وصف علاقة الجزائر مع مالي، في أكثر من مناسبة، بـ”المحورية”.

لكن ما يثير التساؤل، هو الأسباب التي دفعت تبون في تصريحه الأخير إلى انتقاد وجود مجموعة فاغنر الروسية في مالي؛ واعتباره أن الأموال التي يدفعها المجلس العسكري الحاكم في باماكو، مقابل خدمات فاغنر، ستكون “أكثر فائدة إذا استثمرت في مشاريع اقتصادية”؛ حيث قال تبون، في مُقابلة مع صحيفة لوفيغارو الفرنسية، في عددها الصادر الجمعة 30 ديسمبر الماضي، إن “الأموال التي يكلفها هذه الحضور ستكون أنسب وأكثر فائدة، إذا خُصصت للتنمية في منطقة الساحل”.

أسباب متعددة

لم يكتف الرئيس عبد المجيد تبون بانتقاد تواجد فاغنر في مالي، ولم يتوقف عند حدود انتقاد المجلس العسكري الحاكم في باماكو – وإن بصورة غير مباشرة- وتمويله هذا التواجد؛ بل تابع قائلا “إن تسوية الوضع تمر بوضوح عبر الجزائر. لو سُوعِدنا في العمل على تطبيق اتفاق الجزائر لعام 2015، من أجل تهدئة هذه المنطقة، لما كان هذا الحال”.

وبناءً على هذه الرؤية التي يقدمها الرئيس الجزائري، عبر تصريحاته للصحيفة الفرنسية، يبدو أن عددًا من الأسباب تستند إليها الرؤية الجزائرية، في محاولة حصار دور قوات فاغنر في مالي.

من هذه الأسباب، تدعيم الدور الجزائري المتصاعد في أزمة مالي؛ حيث تحاول الجزائر ملء الفراغ الذي تركته قوات باراخان الفرنسية، التي غادرت إلى النيجر (البلد الساحلي الأفريقي المجاور) وقدوم قوات أخرى روسية، بالاتفاق مع سلطات مالي. ويقوم الدور الجزائري في مالي على مقومات متعددة، يأتي في مقدمتها مرجعية اتفاق الجزائر بين الأزواد، تلك القبائل التي تقطن شمال مالي المضطرب، والسلطة المركزية في باماكو، حيث نجحت الجزائر في التوصل إليه عام 2015.

وبالتالي تستند محاولة الجزائر في ملء الفراغ إلى اعتبارات يراها صانع القرار الجزائري موضوعية – خصوصًا مسألة الجوار الجغرافي- حيث يصل طول الحدود بينهما إلى حوالي 1376 كيلو متر، ما يجعل من الجارة الجنوبية مالي، عمقًا استراتيجيًا للجزائر وبما يعني – في الوقت نفسه- المعرفة الجزائرية العميقة بمنطقة شمال مالي، التي ترتكز على مكونات أنثروبولوجية واجتماعية بصفة خاصة.

من الأسباب أيضا؛ محاولة الحد من دور فاغنر في ليبيا؛ فالجزائر في موقفها من الأزمة الليبية وتداعياتها على الأمن القومي الجزائري، اتخذت موقعًا أكثر اقترابًا من غرب ليبيا عن شرقها؛ وهو الموقف الذي يعود إلى المنظور الذي اعتمدته الجزائر في التعامل مع الأزمة، أي منظور الأمن الحدودي للدولة الجزائرية، وإشكالية انكشافه أمام تداعيات هذه الأزمة.

ومن ثم يأتي انتقاد الرئيس الجزائري لتواجد فاغنر الروسية في مالي، بمثابة رسالة غير مباشرة موجهة إلى موسكو، بخصوص الدور الذي تقوم به هذه القوات في ليبيا. فالجزائر لا تنظر بعين الرضا إلى ما تقوم به هذه الشركة الروسية وقواتها في ليبيا المجاورة من دور لا يتوافق تماما، في الواقع مع مصالحها؛ من حيث إن فاغنر تعمل هناك في ليبيا، لصالح معسكر المشير خليفة حفتر الذي لا تدعمه الجزائر.

من الأسباب كذلك، مراعاة واشنطن وإعادة العلاقات مع فرنسا؛ إذ ليس من المصادفة أن تأتي تصريحات الرئيس الجزائري، بخصوص فاغنر في مالي، بعد أيام من حدثين لهما أكثر من دلالة، حول دوافع هذه التصريحات.

فمن جهة أدرجت الولايات المتحدة الأمريكية في 3 ديسمبر الماضي، مجموعة فاغنر الروسية، إضافة إلى كوبا ونيكاراغوا، على قائمتها السوداء، المرتبطة بالحريات الدينية حول العالم، ما يفسح المجال لإمكان فرض عقوبات عليها.

ومن جهة أخرى، وبعد لقائه الرئيس تبون، الأحد 18 ديسمبر الماضي، أعلن وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دار مانان، فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين.

وإضافة إلى ما يبدو -عبر انتقاد فاغنر في مالي- أنه رسالة جزائرية إلى واشنطن؛ فإنه – في الوقت نفسه- تأكيد جزائري على حاجة فرنسا إلى دورٍ للجزائر يعمل على ضبط التوتر “القريب من النيجر” وموطن الاستثمارات الفرنسية في مادة اليورانيوم، الكفيلة بالتخفيف من وطأة فجوة الطاقة، مع قرار الأوروبيين، التوقف عن الاعتماد على الغاز الروسي، على خلفية  الحرب في أوكرانيا.

وأخيرًا، تأكيد محورية الدور الجزائري في أزمة الطاقة؛ فالاستراتيجية الجزائرية في محاولة الاستفادة القصوى من حجم التغير الذي حدث على مستوى سوق الطاقة العالمي، بتحول النفط والغاز كليهما، في الفترة الحرجة الحالية من سلعة ريعية إلى مكون استراتيجي، تتقاطع مع المشروع الجزائري لنقل الغاز النيجيري، عبر الطريق العابر للصحراء، مرورا بدول ساحلية، وفي مقدمتها مالي، ليكون تأمين المنطقة بدور جزائري كبير، أساسه مرجعية “اتفاق الجزائر” (2015).

لذلك فإن الجزائر في إطار تمديد نفوذها إلى منطقة الساحل الأفريقي، تسعى إلى إنجاز عدد من المشاريع الكبرى؛ إلا أن مثل هذا الطموح يصطدم بالتمدد الروسي في المنطقة، الذي يسعى إلى تعزيز حضوره الدبلوماسي والعسكري وحتى الاقتصادي، ما يُزعج الجزائر التي تتدخل في منطقة الساحل الأفريقي عبر سياسة ناعمة لكنها مؤثرة. ومن ثم قد تكون الحالة  المالية وانتقاد فاغنر هناك، من أولى تداعيات التفاهمات الجزائرية الفرنسية الجديدة، بمنح الجزائر المكانة المحورية في تفاهمات الساحل الأفريقي المستقبلية.

توازن مرن

في هذا السياق، يمكن القول بأن الموقف الجزائري من الأزمة في مالي إنما يأتي إِعمالًا للرؤية الرافضة لأي فعل يمكن أن يتسبب في المزيد من الاضطرابات والتحديات الأمنية والإنسانية، التي تشهدها البلاد، بما يمكن أن يؤثر على الداخل الجزائري عبر الحدود الجنوبية.

أضف إلى ذلك، ما يبدو من محاولة جزائرية للبحث عن آليات جديدة، لتعزيز دورها في إقليم الساحل الأفريقي، حيث يُعد الإقليم من أهم المناطق، إن لم يكن أهمها بالفعل، تلك المُرشحة لأن تشهد حضورًا عسكريًا جزائريًا، بعد تمرير التعديلات الدستورية، التي تضمنت للمرة الأولى بندًا يسمح بنشر القوات المسلحة الجزائرية وحدات لها في عمليات خارج حدود البلاد.

ولعل هذا ما يوضح “التوازن المرن” الذي تحاوله الجزائر، مع كافة الأطراف المتداخلة مع منطقة الساحل الأفريقي عموما، والأزمة في مالي على وجه الخصوص. فانتقاد فاغنر، في محاولة مراعاة واشنطن، وإعادة العلاقات مع فرنسا، لا يعني التقليل من قوة العلاقات الجزائرية مع موسكو؛ بقدر ما يعني محاولة إعادة التموضع الجزائري في الساحل الأفريقي، بصورة أكثر فاعلية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock