بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عُمان
يبدو أن سيناريوهات بايدن لإنهاء حرب غزة بطريقة تحقق انتصارا تاما لأمريكا وإسرائيل وهزيمة كاملة للفلسطينيين والعرب قد لا تمر مرور الكرام، وإنها ستواجه عقبات وعراقيل ربما تعيد صياغتها وتقلل تجبرها.
فقد أدى صمود المقاومة الأسطوري لمدة 6 أشهر إلى إطالة أمد الحرب وبالتالي لسقوط أمل أمريكا وإسرائيل في حرب خاطفة قاضية تنتهي قبل أن تنتبه الشعوب ويندلع الغضب العالمي في كل مكان ضد جرائم هذه الحرب. طال الصمود فطالت الحرب فشهد العالم مجازر لأكبر عدد من القتلى والجرحى والمفقودين في حرب معاصرة ٦٥% منهم أطفال ونساء، وشهد أكبر حملة تجويع للشعب الفلسطيني بمنع المساعدات الغذائية والدوائية عنه، تجويع قال تصنيف أممي صدر مؤخرا إنه قد يودي بحياة مليون فلسطيني بشكل وشيك. ومع تهديد نتانياهو الأحمق باجتياح رفح التي يحشر فيها ما يزيد عن مليون ونصف مليون فلسطيني فإن مجزرة بشرية، قد تكون الأكبر في هذا القرن، ليست بعيدة عن الحدوث. كل جرائم الحرب هذه وضعت إسرائيل في عزلة دولية متزايدة وفقدت الدعم التقليدي الذي كانت تحصل عليه وخسرت صورة الضحية التي كانت تنتحلها وتحوّلت في دعوى أمام محكمة العدل الدولية إلى دولة تمارس جريمة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي.
هذه العزلة المتزايدة دوليا تضع انحياز أمريكا الأعمى لإسرائيل في حرج كبير أمام العالم، وتهدد جزئيا فرص فوز بايدن في الانتخابات الرئاسية هذا العام. كما أنها تجعل الحملة الهمجية العسكرية التي تشنها على غزة الآن دون أي غطاء أو شرعية ويحوّلها تدريجيا لدولة مارقة تنتهك القانون الدولي وتستخف بالعالم.
السؤال هنا، هل هناك فرصة حقيقية لأول مرة بعد ٧٥ عاما من جرائم القتل والتطهير العرقي وسرقة واحتلال الأراضي الفلسطينية وإقامة نظام تمييز عنصري «أبارتهيد» ضد الفلسطينيين أن يتم عزل إسرائيل دوليا وأن تنضم أخيرا لنادي الدول التي يتم فرض عقوبات اقتصادية ومالية وحظر سلاح وتواجه مقاطعة رياضية وأكاديمية وثقافية.. إلخ؟
الجواب نعم ولكن تحت سقوف معينة يصعب تجاوزها في ظل النظام الدولي الراهن الذي تقوده وتسيّره حاميتها الأمريكية.
نعم تبلورت مؤشرات حقيقية على إمكانية أن يتطور وضع إسرائيل إلى وضع الدولة المعزولة من المجتمع الدولي في الأسبوعين الماضيين.
المؤشر الأول هو صدور قرار مجلس الأمن الدولي لأول مرة منذ بداية الأزمة بوقف إطلاق نار مؤقت خلال شهر رمضان. القرار الذي امتنعت أمريكا عن التصويت ضده ولم تستعمل ضده سلاح الفيتو كان إشارة إلى أن التوجه العام للمجتمع الدولي حيال الأزمة هو ضرورة إنهاء هذه الحرب في أسرع وقت وأن الطرف المسؤول عن استمرارها واستمرار فاتورتها البشرية الفادحة هو إسرائيل. عدم تنفيذ إسرائيل للقرار -وهو أمر أعلنته بوضوح عندما تعهدت باستمرار الحرب والتجويع في غزة- سيجعل دولا عدة تفكر جديا في فرض عقوبات عليها لعدم امتثالها للقرار. الأمر لا يتعلق بحكومات تقدمية مثل كولومبيا ولكن حتى بدول أوروبية؛ فحظر السلاح الذي فرضته كندا وإيطاليا قد يمتد لألمانيا وفرنسا وبريطانيا تحت الضغوط الشعبية والبرلمانية المتزايدة.
وفكرة قطع العلاقات الدبلوماسية أو تخفيض مستواها ستكون مطروحة بقوة إذا استمرت إسرائيل شهورا وربما حتى فقط أسابيع أخرى في شن حربها على غزة وخصوصا في رفح. الاعتراف بدولة فلسطين وهو نوع من العزلة لها أيضا بات كذلك توجها معلنا لنحو نصف دستة من الدول الأوروبية.
المؤشر الثاني هو أمر محكمة العدل الدولية الذي صدر الأسبوع الماضي الذي يأمر إسرائيل بفتح كل المعابر البرية لوصول المساعدات، ووقف أي أعمال ضد الفلسطينيين كمجموعة عرقية وهي هنا لا تشمل فقط المطالبة بوقف حرب إسرائيل ومجازرها اليومية في غزة ولكن أيضا يأمر ضمنا بوقف خطة تهجير الفلسطينيين من غزة.
المؤشر الثالث هو حدوث طفرة نسبية في التحركات الشعبية العربية الداعمة لغزة والضاغطة على الحكومات العربية خاصة التي شهدتها الأردن ومصر والمغرب سواء في ارتفاع أعداد المنضمين إليها من تيارات ورموز سياسية متنوعة ومتباينة أو في ارتفاع وتيرة الغضب من أداء النظام الرسمي العربي.
هذا التطور قد يضع عددا من الحكومات العربية تحت ضغط قاس لاتخاذ مواقف سياسية من إسرائيل ناورت حتى تتجنبها طيلة أشهر الأزمة.. وقد يدفع هذه الحكومات للتحوّل نسبيا من حالة الانصياع لأوامر واشنطن في الأزمة إلى حالة التحذير من أن استمرار الحرب والتجويع على غزة سيهز استقرارها السياسي كنظم معتدلة حليفة للولايات المتحدة.
لكن المؤشرات الحاسمة التي تسرّع أو تبطّئ من إمكانية رؤية المزيد إسرائيل معزولة ومعرّضة لعقوبات دولية هي مؤشرات أمريكية وإسرائيلية. والمعنى هنا أن طريقة قراءة واشنطن في الفترة القليلة المقبلة لاتجاه سير هذه المؤشرات سيحدد ما إذا كانت الولايات المتحدة ستوقف الاتجاه لعزل إسرائيل بكامل قوتها أم ستسمح بحدوث قدر من هذه العزلة حتى تتأكد من إسرائيل بنتانياهو أو من غيره ستقبل هديتها بإعادة هيكلة الإقليم وصياغة وضع غزة بعد الحرب حسب استراتيجيتها للتطبيع الشامل وبالتوافق مع دول عربية حليفة اختارت هذا التطبيع نهجا ولكنها تريد غطاء سياسيا لا يضعها في مواجهة مع شعوبها.
سيتوقف الأمر على حسم الحزب الديمقراطي بشكل جازم لشكوكه الحالية بأن نتانياهو سيحرم بايدن من صفقة استكمال «المؤسسة الإبراهيمية» المعادية لإيران والمكونة من حلف إسرائيلي- عربي. فهذه الصفقة هي صفقة الأحلام التي وصفت بأنها ستكون أهم إنجاز استراتيجي أمريكي منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، ويراها أنصار بايدن أيضا كتذكرة الفوز التي ستقوده للفوز في الانتخابات القادمة.
إذا تم الحسم فإن الثأر القديم بين الديمقراطيين ونتانياهو خاصة فريق الرئيس الأسبق أوباما ومنهم بايدن نفسه يتم إحياؤه من جديد عندما تحدى نتانياهو أوباما وذهب للكونجرس ٢٠١٦ مدعوا من معارضي الرئيس من الجمهوريين في سابقة لم تحدث من قبل. وقد يصبح الوضع أكثر استقطابا إذا تأكد الديمقراطيون من شكوك أن نتانياهو ربما يكون قد طلب من الإيباك مؤخرا دعم سياساته في حرب غزة عن طريق مخاطبة القاعدة المسيحية الإنجليكانية الصهيونية المؤيدة لإسرائيل وهي قاعدة تقليدية للحزب الجمهوري ومن شأن ذلك أن نتانياهو سيبدو هنا وكأنه يريد التدخل والتأثير في الانتخابات الأمريكية منحازا للجمهوريين.
سيسرع من إمكانية حدوث العزلة الدولية لإسرائيل أن تفقد واشنطن الأمل في قدرة الطبقة السياسية والمؤسسة العسكرية والأمنية على تحويل اختلافها مع نتانياهو واتفاقها مع استراتيجية بايدن إلى موقف عملي يضغط على نتانياهو تعديل مواقفه أو يؤدي لفتح باب تغيير الحكومة الحالية عبر انتخابات مبكرة. فغانتس يبدو حتى الآن سياسيا مترددا وخاضعا لابتزاز الشارع الإسرائيلي المتطرف الداعم لاستمرار الحرب. لكن إذا تراجع نتانياهو وسمح لبايدن أن يحقق له كل أهدافه وبيد عربية وفلسطينية ودون استنزاف إسرائيل في وحل غزة مستقبلا.. أو إذا تمكن غانتس وآيزنكوت وغيرهما من المختلفين مع نتانياهو مع دعم من الدولة العميقة الإسرائيلية من إزاحته سياسيا من الطريق فإن أمريكا ستمكن إسرائيل من الإفلات من العقاب للمرة الألف وتحول دون تنامي عزلتها الدولية وتضغط بنفوذها على محكمة العدل الدولية لعدم إدانتها بالإبادة الجماعية. وستبقي على قرارات الفصل السابع الملزمة بغزو دول عسكريا مقصورا على العرب والمسلمين كما حدث في العراق وأفغانستان. وتبقي على العقوبات العسكرية والاقتصادية والمالية المخيفة على خصومها مثل إيران وسوريا وروسيا وكوريا الشمالية.