عام

الرسم القرءاني.. ودلالة مصطلحي “ٱمۡرَأَة” و”ٱمۡرَأَتُ”

في محاولتنا الاستمرار في الحديث عن إحدى أهم الظواهر الدلالية في الرسم القرءاني، يأتي حرف “التاء”، مؤشرا دلاليا، ليؤشر إلى اختلاف دلالة المصطلح باختلاف الرسم القرءاني لهذا الحرف؛ ففي حال رسمها مبسوطة “التاء المفتوحة”، تُعطي مؤشرًا دلاليًا على الجانب الوظيفي المعنوي؛ في حين إذا رُسمت موثوقة “التاء المربوطة”، فإنها تُعطي مؤشرًا دلاليًا على الجانب المادي العضوي.

وهذا يعني -في ما يعنيه- أن اختلاف الرسم القرءاني للمصطلح الواحد باختلاف وروده في آيات التنزيل الحكيم، إنما يعني اختلافًا دلاليًا تبعًا للسياق الوارد فيه المصطلح؛ بما يؤكدد على مسألة “المؤشر الدلالي” للمصطلح القرءاني.

وكنا قد أكدنا من قبل، على الاختلاف في رسم مصطلح قرءاني واحد، ذلك الذي يأتي في آية بالرسم “قُرَّةِ” حيث التاء “المربوطة”، وفي آية أخرى بالرسم “قُرَّتُ” حيث التاء “المفتوحة”.

فقد ورد الفعل “قرَّ” وقد أُضيفت إليه “التاء” المربوطة “ة”، كما في قوله تعالى: “فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” [السجدة: 17]؛ وهنا، لنا أن نلاحظ أن “قُرَّةِ أَعْيُنٍ”، عبر رسمها بالتاء المربوطة، إنما تُعطي مؤشرًا دلاليًا على أن “مَا أُخْفِيَ لَهُمْ”، من نعيم الجنة، قد تآلفت عناصره التكوينية، وصار موجودًا وليس مجرد رجاء؛ بل هو شيء “مستقر”، رغم كونه مخفيًا عن الأنفس، ويمكن الوصول إليه من خلال الإيمان والعمل الصالح؛ ولذلك، جاءت خاتمة الآية الكريمة “جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”. وهو ما يعني أن “قُرَّةِ”، عبر رسمها بالتاء المربوطة، قد أعطت مؤشرًا دلاليًا على الجانب المادي العضوي، الذي تحقق وأصبح واقعًا عينيًا.

بل، إن الأهم، من المنظور الدلالي، ليس خاتمة الآية الكريمة فقط، ولكن أيضًا سياق الآية الكريمة التي تليها مباشرة، حيث يقول عزَّ وجل: “أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ” [السجدة: 18]؛ حيث جاءت المقارنة بين النوعين من منظور أنهم “لَا يَسْتَوُونَ”.

أما في سياق آخر، وفي آية كريمة أخرى، في قصة موسى عليه السلام، يقول الله سبحانه: “وَقَالَتْ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ” [القصص: 9]؛ وهنا، لنا أن نلاحظ أن “التاء” المُضافة إلى الفعل “قرَّ”، قد رُسِمت مفتوحة؛ بما يعني أن قول “امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ” عن موسى عليه السلام “قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ”، هو رجاء مستقبلي منتظر لما بعد فترة زمنية “مفتوحة”؛ ولذلك، قالت “عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا”، بما يؤشر إلى أنها كانت ترجو أن يكون موسى سببًا في “الاستقرار” المستقبلي. وهو ما يعني أن “قُرَّتُ”، عبر رسمها بالتاء المفتوحة، قد أعطت مؤشرًا دلاليًا على الجانب الوظيفي المعنوي، الذي لم يتحقق بعد ويُصبح واقعًا عينيًا.

ولكن، ماذا، إذن، عن مصطلح “ٱمۡرَأَتُ” الذي ورد في الآية الكريمة؟

ورد المصطلح القرءاني “ٱمۡرَأَتُ” في “سبع” مواضع من آيات الذكر الحكيم، في حين ورد المصطلح نفسه، ولكن باختلاف الرسم القرءاني له “ٱمۡرَأَةٞ”، في “أربعة” مواضع. بيد أن الملاحظة الواجب تثبيتها، في هذا الإطار، أن ورود “ٱمۡرَأَتُ”، رسمًا قرءانيًا بالتاء المفتوحة، في اختلاف عن ورودها في مواضع أُخرى من التنزيل الحكيم بالتاء المربوطة “ٱمۡرَأَةٞ”؛ إنما يعني اختلافًا دلاليًا تبعًا للسياق الوارد فيه المصطلح.

وربما يُمكننا الاتفاق مع ما أشار إليه الكثيرون، من أن المرأة “المُعرَّفة”، بالإضافة إلى زوجها بضمير متصل يدل عليه أو إلى اسمه مُصرحًا به، تُكتب رسمًا قرءانيًا بالتاء المفتوحة “ٱمۡرَأَتُ”، في حين تُكتب بالتاء المربوطة عندما تأتي “نكرة” بشكل عام “ٱمۡرَأَةٞ”.

إلا أن الإضافة التي نود إضافتها، هنا، تلك المتعلقة بـ”الرسم القرءاني” والمؤشر الدلالي الخاص به؛ فكتابة “ٱمۡرَأَتُ” ـ بهذا الشكل رسمًا قرءانيًا ـ تؤشر دلاليًا إلى الجانب الوظيفي المعنوي، في علاقة هذه “المرأة” بالسياق القرءاني التي ترد فيه؛ أي بالانتساب إلى شخص مُحدد.

يأتي هذا، كما في قوله سبحانه وتعالى: “إِذۡ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ عِمۡرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِي بَطۡنِي مُحَرَّرٗا فَتَقَبَّلۡ مِنِّيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ” [آل عمران: 35]؛ وأيضًا، كما في قوله سبحانه: “وَقَالَ نِسۡوَةٞ فِي ٱلۡمَدِينَةِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ تُرَٰوِدُ فَتَىٰهَا عَن نَّفۡسِهِۦۖ قَدۡ شَغَفَهَا حُبًّاۖ إِنَّا لَنَرَىٰهَا فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ” [يوسف: 30]؛ وفي قوله تعالى: “قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡـَٰٔنَ حَصۡحَصَ ٱلۡحَقُّ أَنَا۠ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ” [يوسف: 51].. ثم، كذلك، في قوله: “وَقَالَتِ ٱمۡرَأَتُ فِرۡعَوۡنَ قُرَّتُ عَيۡنٖ لِّي وَلَكَۖ لَا تَقۡتُلُوهُ عَسَىٰٓ أَن يَنفَعَنَآ أَوۡ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدٗا وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ” [القصص: 9].

بل، إن الجانب الوظيفي، دلاليًا، في علاقة “المرأة” بالانتساب إلى شخص مُحدد؛ لم يختلف، بالنظر إلى موقف هذه “المرأة”، سواء كانت تنتمي “لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ”، أو “لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ”؛ وذلك، كما في قوله عزَّ وجل: “ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمۡرَأَتَ نُوحٖ وَٱمۡرَأَتَ لُوطٖۖ كَانَتَا تَحۡتَ عَبۡدَيۡنِ مِنۡ عِبَادِنَا صَٰلِحَيۡنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمۡ يُغۡنِيَا عَنۡهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـٔٗا وَقِيلَ ٱدۡخُلَا ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّٰخِلِينَ ٭ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱمۡرَأَتَ فِرۡعَوۡنَ إِذۡ قَالَتۡ رَبِّ ٱبۡنِ لِي عِندَكَ بَيۡتٗا فِي ٱلۡجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرۡعَوۡنَ وَعَمَلِهِۦ وَنَجِّنِي مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ” [التحريم: 10-11].

أما كتابة “ٱمۡرَأَةٞ” ـ بهذا الشكل رسمًا قرءانيًا ـ فهي تؤشر، دلاليًا، إلى الجانب المادي، العضوي، في علاقة هذه “المرأة” بالسياق القرءاني التي ترد فيه؛ أي بوضعية “عضوية” معينة.

يقول سبحانه وتعالى: “إِنِّي وَجَدتُّ ٱمۡرَأَةٗ تَمۡلِكُهُمۡ وَأُوتِيَتۡ مِن كُلِّ شَيۡءٖ وَلَهَا عَرۡشٌ عَظِيمٞ” [النمل: 23]؛ ويقول سبحانه: “وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضٗا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يُصۡلِحَا بَيۡنَهُمَا صُلۡحٗاۚ وَٱلصُّلۡحُ خَيۡرٞۗ” [النساء: 128]؛ ويقول تعالى: “وَٱمۡرَأَةٗ مُّؤۡمِنَةً إِن وَهَبَتۡ نَفۡسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنۡ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسۡتَنكِحَهَا خَالِصَةٗ لَّكَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۗ قَدۡ عَلِمۡنَا مَا فَرَضۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ لِكَيۡلَا يَكُونَ عَلَيۡكَ حَرَجٞۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا” [الأحزاب: 50].

وهنا، لنا أن نُلاحظ التعبيرات القرءانية الدالة على الجوانب، أو العلاقة، العضوية؛ مثل: “ٱمۡرَأَةٗ تَمۡلِكُهُمۡ”، و”ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ… نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضٗا”، و”ٱمۡرَأَةٗ… وَهَبَتۡ نَفۡسَهَا”.

ثم، يأتي الموضع القرءاني “الرابع” في ورود مصطلح “ٱمۡرَأَةٞ”، رسمًا قرءانيًا بهذا الشكل، ضمن آيات “المواريث”، كما في قوله عزَّ من قائل: “وَإِن كَانَ رَجُلٞ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَوِ ٱمۡرَأَةٞ وَلَهُۥٓ أَخٌ أَوۡ أُخۡتٞ فَلِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُۚ فَإِن كَانُوٓاْ أَكۡثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمۡ شُرَكَآءُ فِي ٱلثُّلُثِۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصَىٰ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍ غَيۡرَ مُضَآرّٖۚ وَصِيَّةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٞ” [النساء: 12].

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock