في الحديث السابق حول: “دلالة مصطلحي ٱلظَّٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ”، وصلنا إلى أن قوله سبحانه وتعالى: “هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ وَٱلظَّٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ” [الحديد: 3]؛ هي الآية الوحيدة التي وردت فيها أسماء الله الحسنى هذه، حيث إن “ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ وَٱلظَّٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ” لم يرد أي منها في آيات التنزيل الحكيم عدا “مرة واحدة”، في هذه الآية الكريمة.
وهناك، أكدنا على مُلاحظة كيف جاءت “واو” العطف بين “ٱلۡأَوَّلُ” و”ٱلۡأٓخِرُ”؛ وكيف جاءت، أيضًا، بين “ٱلظَّٰهِرُ” و”ٱلۡبَاطِنُۖ”؛ هذا بالإضافة إلى ورودها، بين “ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ” و”ٱلظَّٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ”. إذ إن هذه هي الآية “الوحيدة” التي وردت فيها أسماء الله الحُسنى “معطوفة”، وذلك للدلالة على “عدم انطباق معادلات الزمان والمكان على الله سبحانه وتعالى”؛ حيث إن الزمان والمكان، بمفهومهما الحالي، هما من صفات الأشياء والظواهر التي يحكمها قانون “التغير”.
وهنا، نُعيد طرح التساؤل: لماذا ورد مصطلح “ٱلظَّٰهِرُ” محذوف حرب الألف، في كافة آيات التنزيل الحكيم؛ بينما ورد مصطلح “ٱلۡبَاطِنُۖ” مع تثبيت حرف الألف في القرءان الكريم كله؟ وذلك في جميع مواضع ورود مصطلحي “ٱلظَّٰهِرُ” و”ٱلۡبَاطِنُۖ” في آيات التنزيل الحكيم.
معنى البطن، ماديًا، جوف الشيء؛ كما في قوله تعالى: “وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡـٔٗا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ” [النحل: 78]؛ أما دلاليًا، فالبطن تؤشر إلى “مضمون الشيء”، أو بالأصح “المختفي والمحتجب عن الأنظار”، كما في قوله عزَّ من قائل: “وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ” [الأنعام: 151].
وقد ورد مصطلح “ٱلۡبَاطِنُۖ”، ومشتقاته، في كافة آيات التنزيل الحكيم، مع تثبيت حرف الألف، للدلالة على الجانب المادي، العضوي، للمصطلح؛ كما في قوله سبحانه: “مُتَّكِـِٔينَ عَلَىٰ فُرُشِۭ بَطَآئِنُهَا مِنۡ إِسۡتَبۡرَقٖۚ وَجَنَى ٱلۡجَنَّتَيۡنِ دَانٖ ٭ فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ” [الرحمن: 54-55]؛ وأيضًا، في قوله تعالى: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةٗ مِّن دُونِكُمۡ لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ قَدۡ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ” [آل عمران: 118].
وكما هو واضح، تأتي دلالة “بَطَآئِنُهَا”، في الآية الأولى [الرحمن: 54-55]، رسمًا قرءانيًا، لتؤشر على الجانب المادي للمصطلح، الذي يتأكد من خلال سياق الآية “مُتَّكِـِٔينَ عَلَىٰ فُرُشِۭ بَطَآئِنُهَا مِنۡ إِسۡتَبۡرَقٖۚ”؛ خاصة أن مُفتتح الآية “مُتَّكِـِٔينَ” هو حال، وأن ذو الحال يبدو من خلال دلالة مفهوم “الاتكاء”، الذي يُشير إلى صحة الجسم وراحة العقل والقلب، من حيث إن “الاتكاء” لا يكون إلا في هذه الحال. ولنا أن نتساءل، هنا للتأمل: إذا كان الاتكاء يتم “عَلَىٰ فُرُشِۭ”، من أهم صفاتها أن “بَطَآئِنُهَا مِنۡ إِسۡتَبۡرَقٖۚ”؛ ترى، ماذا تكون “ظواهرها” إذًن؟
أما في الآية الثانية [آل عمران: 118]، يأتي مصطلح “بِطَانَةٗ” ليؤشر دلاليًا كذلك على الجانب المادي. فـ”بطانة” مصدر يُسمى به المفرد والجمع، و”بِطَانَةٗ” الرجل خاصته، وأصله من البطن خلاف الظهر؛ والحاصل أن ما يخصه الإنسان بمزيد من التقريب، يكون بمثابة “المضمون المختفي عن الأنظار”. ومن ثم فالآية الكريمة تنهي “ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ” عن اتخاذ “بِطَانَةٗ” من دون المؤمنين، وذلك لأنهم “لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا”، حيث “لَا يَأۡلُونَكُمۡ” أي لا يُقصِّرون تجاهكم؛ و”خَبَالٗا” أي إفسادًا “لكم”؛ إذ إن أصل “الخبال” هو ذهاب الشيء.
ولنا هنا أن نُلاحظ أن “لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةٗ” نكرة في سياق النفي، وبالتالي فهي تُفيد العموم. أيضًا، فإن النَظْمْ القرءاني لم يأت على الشكل: “لا تتخذوا من دونكم بطانة”، ولكن على الصورة: “لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةٗ مِّن دُونِكُمۡ”، وهو أقوى بلاغيًا، ليس لأن هناك تقديم للأهم، كما يقول بعض المفسرين القدامى الذين يأخذون عن “سيبويه”، ولكن لأنه أقوى في الإفادة وأكثر دلالة على المقصود، من حيث إن “بِطَانَةٗ” تُرَد إلى النهي “لَا تَتَّخِذُواْ”، بخلاف الشكل الآخر الذي تُرد فيه “بِطَانَةٗ” إلى “من دونكم”.
سبق أن أشرنا إلى أن الظاهر، “لغة”، يعني الغلبة والقهر؛ حيث يُقال ظهر فلان على فلان أي غلبه، كما يعني المُحيط، ظهرت على سر فلان أي اطلعت عليه وأحطت به، وظهرت على فلان أي علوته، ومنه قوله سبحانه: “عَلَيۡهَا يَظۡهَرُونَ” في قوله تعالى: “وَلَوۡلَآ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ لَّجَعَلۡنَا لِمَن يَكۡفُرُ بِٱلرَّحۡمَٰنِ لِبُيُوتِهِمۡ سُقُفٗا مِّن فِضَّةٖ وَمَعَارِجَ عَلَيۡهَا يَظۡهَرُونَ” [الزخرف: 33].
أما عن مصطلح “ٱلظَّٰهِرُ”، فقد ورد في كافة آيات التنزيل الحكيم محذوف حرف الألف، كمؤشر دلالي على الجانب الوظيفي، المعنوي، للمصطلح؛ وهو ما يتأكد في قوله سبحانه وتعالى: “وَقَالَ رَجُلٞ مُّؤۡمِنٞ مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَكۡتُمُ إِيمَٰنَهُۥٓ أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدۡ جَآءَكُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ مِن رَّبِّكُمۡۖ وَإِن يَكُ كَٰذِبٗا فَعَلَيۡهِ كَذِبُهُۥۖ وَإِن يَكُ صَادِقٗا يُصِبۡكُم بَعۡضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ مُسۡرِفٞ كَذَّابٞ ٭ يَٰقَوۡمِ لَكُمُ ٱلۡمُلۡكُ ٱلۡيَوۡمَ ظَٰهِرِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنۢ بَأۡسِ ٱللَّهِ إِن جَآءَنَاۚ قَالَ فِرۡعَوۡنُ مَآ أُرِيكُمۡ إِلَّا مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهۡدِيكُمۡ إِلَّا سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ” [غافر: 28-29].
إذ إن التعبير القرءاني “ظَٰهِرِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ” يأتي للدلالة على الغلبة، التي تتوافق وتتواكب مع “ٱلۡمُلۡكُ”، أي للدلالة على الجانب الوظيفي المعنوي للمصطلح القرءاني “ظَٰهِرِينَ”، وذلك في مُفتتح الآية الكريمة: “يَٰقَوۡمِ لَكُمُ ٱلۡمُلۡكُ ٱلۡيَوۡمَ ظَٰهِرِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ”.
وهو ما يتأكد أيضًا في قوله سبحانه: “سَيَقُولُونَ ثَلَٰثَةٞ رَّابِعُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ وَيَقُولُونَ خَمۡسَةٞ سَادِسُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ رَجۡمَۢا بِٱلۡغَيۡبِۖ وَيَقُولُونَ سَبۡعَةٞ وَثَامِنُهُمۡ كَلۡبُهُمۡۚ قُل رَّبِّيٓ أَعۡلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِيلٞۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمۡ إِلَّا مِرَآءٗ ظَٰهِرٗا وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِيهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدٗا” [الكهف: 22].. وكذلك، في قوله تعالى: “أَفَمَنۡ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡۗ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلۡ سَمُّوهُمۡۚ أَمۡ تُنَبِّـُٔونَهُۥ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَم بِظَٰهِرٖ مِّنَ ٱلۡقَوۡلِۗ بَلۡ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكۡرُهُمۡ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِۗ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٖ” [الرعد: 33].
إذ، لنا أن نُلاحظ الجانب الوظيفي المعنوي في التعابير القرءانية: “مِرَآءٗ ظَٰهِرٗا” في الآية الأولى [الكهف: 22]؛ و”بِظَٰهِرٖ مِّنَ ٱلۡقَوۡلِۗ” في الآية الثانية: [الرعد: 33].