ثقافة

محمد رجاء عليش.. أديب اغتاله “قبحنا” الأبدي!

التجاهل والنفور والرفض.. النبذ والإهمال والتلاشي.. الاشمئزاز والتحاشي والاحتقار.. وغيرها من المشاعر الإنسانية السلبية التي يبديها أو يضمرها كثير من الناس، لمن يختلفون عنهم.. هي في حقيقتها أدوات للإيذاء الذي يصل في بعض الأحيان إلى حد القتل أو التحريض عليه!

يعتبر العالم الشهير أبراهام ماسلو الحاجة للتقدير والقبول من الحاجات الأساسية التي لا غنى للإنسان عنها.. لذلك فإن الإنسان الذي لا يحظى بدرجة ما من القبول في مجتمعه- يعاني أشد المعاناة، ويصبح عُرضة لأدواء النفس المهلكة.

ويتعلق القبول في كثير من الأحيان بالجمال الظاهري، الذي يترك أثره في النفس، فتعمى عن المثالب.. بينما يُشكّل القبح الخارجي، حاجزا منيعا يحجب كل جمال باطن، فتكون ردات الفعل تجاه الشخص الموصوم بالقبح، خشنة وجارحة ولا رحمة فيها.

ولا يجب أن ننظر إلى القبح على أنه خلو من أي جمال يمكن رصده، فالقبح ليس نقيضا للجمال، وربما كان صورته السالبة، لذلك تناول الفلاسفة مفهوم جماليات القبح، باعتبار أنه لا شيء قبيح في ذاته، والفن هو المَعْنِي بإبراز الجانب الجمالي في القبح؛ لأن تلقي المنتوج الفني على نحو من الفهم للطبيعة، وما تنطوي عليه من التباين والاختلاف؛ يجعل الإنسان أكثر قدرة على غض النظر عن القبح الظاهر بإدراك الجمال الكامن.

عليش

وربما كان تناولنا لقصة الأديب المصري محمد رجاء عليش، الذي طواه النسيان- محاولة لإبراز جوانب جماليات الإبداع لديه بعد أن قهرته الحياة وعواملها قهرا تاما انتهى بانتحاره، بعد رحلة قصيرة لم تتجاوز النصف قرن.

“عشتُ هذه السنين الطويلة وأنا أحلم بالانتقام من أفراد المجتمع الذين أفلحوا في أن يجعلوني أكفر بكل شيء”.

تلك الكلمات المقتضبة كانت رسالته إلى العالم قبل رحيله، وربما كان ألم رجاء عليش راجعا إلى إدراكه لموهبته الإبداعية، وأحقيته في نيل التقدير المستحق لهذه الموهبة، وتعارض ذلك مع ما كان يلقاه من الآخرين من نبذ بسبب دمامته وضآلة حجمه؛ خاصة من جانب النساء اللائي سعى عليش للتقرب إليهن.

عليش

شيء آخر ساهم في تعاظم محنة الأديب التي قضت عليه، وهي أنه كان ثريا، غير أن ثراءه لم يشفع له في الحصول على أي درجة من القبول؛ لكنه جرّ عليه فقط الطمع في ثروته، حتى أن أقاربه لجئوا إلى القضاء بعد وفاته لإثبات أحقيتهم في الميراث، باتهام الراحل بالجنون، بعد أن أوصى رجاء بأن تذهب تركته لصالح رعاية المبدعين الشباب ونشر أعمالهم.. وقد قاوم هؤلاء  بعد ذلك، كل محاولة نبيلة لإحياء ذكرى الرجل دون مبرر مفهوم!

في تقديمه لروايته الوحيدة “كلهم أعدائي” يقول رجاء: “وزّعت شبابي على نساء لم يحببنني، ومنحت صداقتي لرجال خانوني، وخسرت على طول الخط”.

يبدو أن كاتبنا كانت له تجارب مريرة مع الجنس الآخر، اتسمت جميعها بالخداع والاستغلال، أما الصداقة في حياته فكانت في حقيقتها خيانات متتابعة من أشخاص جعلوه خاسرا على طول الخط، وهو ما نراه واضحا في ما أبدعه من قصص ضمتها مجموعته الوحيدة “لا تولد قبيحا” تلك الصحبة السيئة التي حولت حياته إلى جحيم، عبّر عنه بفقرة ظهرت على ظهر غلاف روايته، عنونها بـ “مرثية إنسان على وشك أن يموت” قال فيها: “ارقد أيها القلب المعذّب فوق صدر أمك الحنون، واسترح إلى الأبد.. دع أحلامك الميتة تتفتح كزهرة تعش مليونا من السنين.. أنت أيها الملاح التائه في بحار الظلمات البعيدة، لقد جئت إلى أمك الأرض لتعيش في حضنها إلى الأبد.. ألقيت بمراسيك في المياه الدافئة العميقة وأمنت من الخوف.. نفضت عن شراعك الثلج والبرودة وأيقظت الشمس في قلبك واسترحت إلى الأبد.. نم هانئا سعيدا يا من لم تعرف الراحة في حياتك.. أحسَّ بالأمن يا من عشت دائما بعيون مفتوحة من الخوف.. الموت أبوك والأرض أمك والسلام رفيقك والأبد عمرك”.

وفي مقدمة مجموعته القصصية “لا تولد قبيحا” يقول عليش واصفا حاله: “هذه صفحات عن أغرب مشكلة في حياتي، مشكلة القبح. يمكنك أن تتخيل أغرب رجل في العالم. أقبح وجه يمكنك أن تصادفه في أي مكان على الأرض؛ لتتأكد أنك تراني أمامك، الأضحوكة الدائمة، والغرابة الدائمة، أنا دائما الأغرب، الأفظع، الأقبح… فليرحمني الله من قارئ يُسطّح كلماتي، ومن ناقد بلا ضمير، ومن مطبعة لا تدور، ومن مجتمع كبحيرة الزيت”.

انتحر رجاء عليش عام 1979، بعد أن فجّر مكتبه ومسكنه المتقابلين باثني عشرة اسطوانة غاز، ووجد ميتا في سيارته بثلاث طلقات في الرأس! ورابعة في أعلى الفخذ.. الغريب أن الصور المتاحة للكاتب والتي لم يتأكد أحد أنها له لا تبدي ذلك القبح وتلك الدمامة التي كانت محور مأساة الأديب.. ويبدو أن المأساة التي عاشها عليش كانت أعمق بكثير من الرفض الاجتماعي لشكله.. رحم الله محمد رجاء عليش.. الذي قهره القبح الذي أحاط به من كل جانب؛ فلم تطقه نفسه الطيبة وروحه المبدع الجميل.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock