بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عروبة 22
من حقنا جميعًا أن نفهم لماذا تغيّر المشهد العام لحرب غزّة في الأسابيع الأخيرة في اتجاه مغاير نسبيًا للإرادة الأمريكية والإسرائيلية وإرادة الدول العربية الحليفة لكليهما. هذا الفهم يساعد في إدراك لماذا تدافعت مؤخرًا ظواهر مركّبة مثل تراجع واشنطن عن تكتيكاتها التي بدأت بها الحرب ومنها إطلاق يد نتنياهو ليقرر وحده متى تنتهي الحرب؟.
لقد انتقلت واشنطن في الأسابيع الأخيرة إلى أخذ زمام الأمور بنفسها وأعادت عميلها الإقليمي إلى حجمه الحقيقي.
قبل شهرين أو ثلاثة اندفع “الإبراهيميون” القدامى والمرشّحون من العرب، وتحدثوا باستهتار عن نزهة للجيش الإسرائيلي وعن “الكيلو متر الأخير” اللذين تنتهي بعدهما قصة المقاومة وتمد بعدها الممرات البرية والسكك الحديدية بين إسرائيل والعرب وتتشابك مصالح الطبقة المهيمنة في كل منهما.
على عكس ما بدا عليه المشهد آنذاك، أثبت زلزال “طوفان الأقصى” من جهة وصمود المقاومة الأسطوري لأكثر من ٦ شهور من جهة ثانية، أنهما تحوّلان تاريخيان من النوع الذي لا تظهر آثاره كلها مرة واحدة بل تستمر في تفجير موجات تغيير هائلة بحجم التسونامي لشهور وسنوات.
تدريجيًا، بدا أنّ كل جبروت القوة الأمريكية – الإسرائيلية غير كاف لمنع “طوفان الأقصى” بجناحيه من حفر مجراه في تاريخ فلسطين والشرق الأوسط. فبهذا المجرى الثوري في تاريخ القضية جرت المياه التالية:
انهيار سيناريو اليوم التالي:
سيناريو اليوم التالي الذي طرحته أمريكا منذ الشهر الأول للحرب كمسلّمة حتمية وتماهت معه الدول العربية وسعت معها لتحقيقه، بني على فرضية أنّ إزالة المقاومة خاصة “حماس” عسكريًا ومدنيًا من غزّة ومن المستقبل الفلسطيني هو هدف سيتحقق لا محالة ولن يستغرق أكثر من ٣ إلى ٤ شهور على الأكثر. وها نحن في الشهر السابع للحرب وهناك اعتراف شبه جماعي أنّ المقاومة تضررت أضرارًا كبيرة ولكنها بعيدة تمامًا عن أن تكون قد كُسرت أو انهارت، بل أنها عمليًا ومنذ الشهر الثالث للحرب حوّلتها لحرب استنزاف بتكتيكات خسرت فيها إسرائيل نحو ١٢ ألف بين قتيل وجريح -حسب تقديرات مستقلة-، وتحوّل نحو ٢٠٠ ألف من سكانها لأول مرة إلى نازحين مثل الفلسطينيين. بعبارة أوضح ثبت أنّ صمود المقاومة على الأرض والنتيجة التي ستنتهي إليها الحرب هي التي ستحدد صورة غزّة وفلسطين بعد الأزمة وليس الكاوبوي الأمريكي.
خسارة الشرعية الدولية:
الاستنزاف لم يكن عسكريًا فحسب لكنه كان استنزافًا لرصيدها الدولي خاصة مع ارتفاع فاتورة جرائم قتل المدنيين الفلسطينيين. خسرت أيضًا الشرعية الدولية القانونية والسياسية الشعبية والحكومية وتحوّلت إلى دولة منبوذة. بل تسبب الانحياز الأمريكي الجنون الإسرائيلي إلى عزل واشنطن نفسها عالميًا خاصة عن دول الجنوب. صدر قراران متتاليان لمحكمة العدل الدولية وقرار لمجلس الأمن يأمران إسرائيل بوقف إطلاق النار والسماح بتدفق المساعدات، أي وقف حرب الإبادة الجماعية بالسلاح وحرب الإبادة الجماعية بالتجويع.
السقوط المخزي لمخططات ملء الفراغ المشبوهة:
لم تفشل إسرائيل في تدمير “حماس” عسكريًا بل وفشلت في تدمير جهازها المدني الذي يحكم غزّة منذ ١٧ سنة وسقطت كل محاولاتها بدعم من واشنطن وأطراف عربية في إيجاد بديل مقنع.
كما أخفقت محاولة إزاحة “حماس” من دور توزيع المساعدات وإسنادها إلى رجال أعمال مرتبطين بإسرائيل وانتهت بكارثة كبرى هي مذبحة دوار النابلسي أو مذبحة الطحين الشهر قبل الماضي التي قُتل فيها ١١٢ مدنيًا فلسطينيًا.
وكما سقطت محاولة بناء تحالف عشائري يحل محل “حماس” في حكم القطاع على غرار تجربة روابط القرى القديمة لرفض معظم العشائر أن توصم بالخيانة والعمل تحت قيادة الاحتلال. سقطت مؤامرة سلطة رام الله مع إسرائيل لاختراق القطاع أمنيًا عن طريق فريق فلسطيني زجّ به مدير مخابرات السلطة ماجد فرج وأحد أهم رموز التنسيق والتعاون الأمني مع “الشاباك” و”الموساد” و”أمان”، إذ تم كشف هذا الاختراق وقُبض على عناصره وقتلت محاولة إحلال السلطة محل “حماس” – دون توافق وطني فلسطيني – في مهدها.
سيناريو الصوملة والأفغنة:
اتفق غالبية الجنرالات الإسرائيليين السابقين والمحللين الغربيين على أنّ هذه الإخفاقات الثلاثة مع استعصاء “حماس” على التدمير كجهاز عسكري يوفر النظام والضبط والسيطرة على القطاع وجهاز حكم مدني يقدّم الخدمات اليومية للمواطنين ليس معناه إلا تحويل غزّة لصومال جديد أو تورا بورا جديدة تعم فيها الفوضى وينتشر فيها الإرهاب خاصة وأنّ آلة القتل الإسرائيلية ستحوّل معظم شباب غزّة بل والضفة الغربية إلى متشددين يسعون للثأر في فلسطين وعموم الشرق الأوسط، بل قد قد نكون أمام موجة إرهاب جديدة تضرب الغرب ومصالحه في العالم.
اتضاح مخاطر التخطيط الأمريكي الإسرائيلي على الدول العربية الحليفة قبل غيرها:
سيناريو الفوضى الذي أصبح ماثلًا أمام العين إذا أصرّت إسرائيل على البدائل الفاشلة المحلية أو من السلطة التي لا تحظى بأي شعبية لدى الشعب الفلسطيني لن يكون أقل سوءًا من الفوضى التي أحدثها الاحتلال العراقي للعراق وتسببت في أعلى موجة إرهاب تمثلت في “داعش”، ولهذا يشبّه محللون إصرار إسرائيل وأمريكا وحلفائهم العرب على اجتثاث “حماس” بكارثة إصرار أمريكا على اجتثاث البعث وما أعقبه من فوضى عارمة ودموية وطائفية لم يبرأ العراق العظيم منها حتى الآن.
هذا السيناريو يضرب بقوة أمن واستقرار مصر والأردن حليفي واشنطن. فهو يهدد بعودة سيناء مسرحًا لمواجهة مريرة أخرى وربما أكبر بين الجيش المصري والمنظمات الإرهابية. ويهدد العرش الهاشمي بصورة أكبر بسبب التركيبة الديموجرافية الدقيقة وتنامي الاحتجاجات الشعبية في الأسابيع الأخيرة. ومع الأدوار المتخاذلة للعواصم العربية في الحرب وخضوعها التام لإرادة واشنطن فإنّ الأخطار على النُظم والعروش العربية بما فيها بعض دول الخليج تتزايد وقد تصل إلى المصير نفسه الذي لقيته عديد من النُظم العربية من تغييرات جذرية بعد هزيمة حرب ٤٨.
لكن ما تُنذر به مخططات واشنطن على حلفائها العرب من الدول الهشة اقتصاديًا القريبة من الصراع لا يقف عند هذا الحد، فإنّ مصر والأردن عليهما أن يقبلا بأن تنقذ أمريكا ربيبتها إسرائيل من جحيم حكم غزّة وتلقي بمصيبة الفوضى الدموية المتوقعة في حجرهما، وإما أن تقبلا بتقزيمهما وبتهميش دورهما التاريخي في القضية الفلسطينية.
تلوّح واشنطن بمنح الدور الفلسطيني عربيًا لدول في الخليج ونزعه من القاهرة وتحويل مصر إلى مجرد حارس أمن على البحر المتوسط لمنع الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.
باعتراف كل العقلاء في إسرائيل والغرب فإنّ إسرائيل وإن حققت بعض الانتصارات التكتيكية في الحرب فإنها تلقت هزيمة استراتيجية. وأنّ الحل الأمثل لإسرائيل هو قبول عرض “حماس” في انسحاب من غزّة والسماح بتدفق المساعدات وعودة النازحين في مقابل الحصول على صفقة مبادلة أسراها لدى المقاومة.
لهذا تغيّرت خطط إدارة بايدن في اتجاه السعي بنفسها لعقد اتفاق هدنة. قررت واشنطن تغيير تكتيكاتها وليس أهدافها مع تبدّل موازين القوى وتأكدها من عدم قدرة إسرائيل على تحقيق أهداف الحرب عسكريًا، قررت عدم ترك القرار رهنًا لحالة الإنكار والكذب على النفس التي تسيطر على نتنياهو حتى لا ينتهي سياسيًا وتسيطر على الجيش حتى لا يلتهمه اليمين المتطرّف.
ما تقدّم هو ما سمح للمقاومة أن تصمد لضغوط العرب وضغوط العدوين الأمريكي والإسرائيلي في المفاوضات وأن ترفض حتى الآن أن ترضخ أو تستسلم.