بداية، من النافل القول إن “ٱلسَّيِّـَٔاتِ” واضحة ومعروفة، من حيث إن المُشَرِّع بيًّنَها في آيات التنزيل الحكيم؛ إذ، لا أحد يشك في أن قتل النفس حرام، وأن السرقة حرام. ومن المنظور اللساني، فإن “ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ” جمع “سيئة”، من ساء يسوء فهي تسوء صاحبها سواء كانت صغيرة أم كبيرة، أي إنها ما يسوء الإنسان في دنياه أو آخرته.
وبذلك، يكون “السوء” هو “الضرر الذي يُصيب الإنسان نتيجة تصرف ما”، بما يؤشر دلاليًا إلى الجانب المادي العضوي لمصطلح “ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ”؛ وهو ما يتأكد في قوله سبحانه: “إِن تَمۡسَسۡكُمۡ حَسَنَةٞ تَسُؤۡهُمۡ وَإِن تُصِبۡكُمۡ سَيِّئَةٞ يَفۡرَحُواْ بِهَاۖ…” [آل عمران: 120]؛ وأيضًا، في قوله تعالى: “وَإِن تُصِبۡهُمۡ حَسَنَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِكَۚ قُلۡ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ فَمَالِ هَٰٓؤُلَآءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ حَدِيثٗا” [النساء: 78].
في مقالنا السابق حول “الرسم “القرءاني”.. ودلالة مصطلح “ٱلۡحَسَنَٰتِ” الوظيفية”، ذكرنا أنه على امتداد آيات الذكر الحكيم، ورد مصطلح “ٱلۡحَسَنَٰتِ” محذوفا منه حرف الألف، في حين ورد مصطلح “ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ” مُثْبتًا فيه حرف الألف؛ وهو ما يُثير الانتباه والتأمل، حول دلالة الرسم القرءاني، في حذف حرف الألف بوصفه مؤشرا دلاليا على الجانب الوظيفي لمصطلح “ٱلۡحَسَنَٰتِ”، وكذلك في تثبيت حرف الألف بوصفه مؤشرا دلاليا على الجانب المادي العضوي لمصطلح “ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ”.
واللافت، أنه في حين ورد مصطلح “ٱلۡحَسَنَٰتِ” في مرات ثلاث، فإن مصطلح “ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ”، قد ورد في صيغة المفرد “سَيِّئَةٗ” أو “ٱلسَّيِّئَةَ” في 22 موضعًا، من آيات التنزيل الحكيم؛ كما في قوله سبحانه: “بَلَىٰۚ مَن كَسَبَ سَيِّئَةٗ وَأَحَٰطَتۡ بِهِۦ خَطِيٓـَٔتُهُۥ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ” [البقرة: 81]، وفي قوله تعالى: “وَٱلَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ رَبِّهِمۡ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ” [الرعد: 22]. هذا، بالإضافة إلى مشتقات أخرى، مثل: سيئاتكم، وسيئاتنا، وسيئاتهم، وسيئاته، التي وردت في 15 موضعًا.
وفي صيغة الجمع، التي يهمنا الحديث عنها، هنا، فقد ورد مصطلح “ٱلسَّيِّـَٔاتِ”، بـ”الـ” التعريف، في 21 موضعًا من آيات التنزيل الحكيم؛ منها قوله سبحانه وتعالى: “وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِۚ إِنَّ ٱلۡحَسَنَٰتِ يُذۡهِبۡنَ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ ذَٰلِكَ ذِكۡرَىٰ لِلذَّٰكِرِينَ” [هود: 114].
وهذا العدد من مرات الورود، في الوقت الذي يدل فيه على الدورة الدلالية الكبيرة، نسبيًا، للمصطلح في التنزيل الحكيم؛ فإن ورود مصطلح “ٱلسَّيِّـَٔاتِ” في عدد من المرات، يصل إلى أضعاف عدد مرات ورود مصطلح “ٱلۡحَسَنَٰتِ” ربما يعود أيضا إلى طبيعة الإنسان ذاته، الذي يُسيء أكثر مما يُحسن.
أشرنا من قبل، بخصوص قوله سبحانه: “وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِۚ إِنَّ ٱلۡحَسَنَٰتِ يُذۡهِبۡنَ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ ذَٰلِكَ ذِكۡرَىٰ لِلذَّٰكِرِينَ” [هود: 114]؛ إلى ما ذهب إليه مُفسرون كُثُر من أن “الـ” في التأكيد “إِنَّ ٱلۡحَسَنَٰتِ يُذۡهِبۡنَ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ”، هي “الـ العهدية” بمعنى أنها حسنات خاصة، تخص “ٱلصَّلَوٰةَ”، مع الاختلاف بينهم في تفاصيل المقصود من “طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِۚ”.
إلا أننا نرى أن “الـ” في كل من “ٱلۡحَسَنَٰتِ” و”ٱلسَّيِّـَٔاتِ” هي “الـ” التعريف؛ أي إن جنس “ٱلۡحَسَنَٰتِ” يُذهب جنس “ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ”، وإن اتباع “السيئة” بـ”الحسنة” تكفير لها لا سيما إذا كان ذلك من جنسها؛ بل وإن كل من “ٱلۡحَسَنَٰتِ” و”ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ” هي مصطلحات تدل، من حيث مفهوم كل منها على العموم، وليست خاصة فقط بـ”ٱلصَّلَوٰةَ” التي وردت عبر الأمر الإلهي في مُفتتح الآية.
وكما ورد مصطلح “ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ”، في هذه الآية الكريمة مُثبت حرف الألف، بوصفه مؤشرا دلاليا على الجانب المادي العضوي للمصطلح، فقد ورد أيضًا في كل مواضع وروده في آيات التنزيل الحكيم، مع تثبيت حرف الألف؛ كما في قوله سبحانه: “وَلَيۡسَتِ ٱلتَّوۡبَةُ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ حَتَّىٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ إِنِّي تُبۡتُ ٱلۡـَٰٔنَ وَلَا ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمۡ كُفَّارٌۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا” [النساء: 18]؛ وكما في قوله تعالى: “وَلَمَّا جَآءَتۡ رُسُلُنَا لُوطٗا سِيٓءَ بِهِمۡ وَضَاقَ بِهِمۡ ذَرۡعٗا وَقَالَ هَٰذَا يَوۡمٌ عَصِيبٞ ٭ وَجَآءَهُۥ قَوۡمُهُۥ يُهۡرَعُونَ إِلَيۡهِ وَمِن قَبۡلُ كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ هَٰٓؤُلَآءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطۡهَرُ لَكُمۡۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُخۡزُونِ فِي ضَيۡفِيٓۖ أَلَيۡسَ مِنكُمۡ رَجُلٞ رَّشِيدٞ” [هود: 77-78].
وكما يبدو عبر هاتين الآيتين الكريمتين، فقد ورد مصطلح “ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ” مرتبطًا بـ”عمل الإنسان”؛ في الآية الأولى: “وَلَيۡسَتِ ٱلتَّوۡبَةُ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ” [النساء: 18]؛ وفي الآية الثانية: “وَمِن قَبۡلُ كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ” [هود: 78]. ومن ثم، ومن حيث إن “عمل الإنسان” هو عمل مادي، عضوي، خاص به؛ لذا، فقد ورد مصطلح “ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ”، مرتبطًا بهذا العمل الإنساني، “السيئ”، مع تثبيت حرف الألف بوصفه مؤشرا دلاليا على هذا الجانب المادي العضوي.
ولعل هذا نفسه، ما يتأكد من خلال قوله عزَّ وجل: “مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ خَيۡرٞ مِّنۡهَاۖ وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلَا يُجۡزَى ٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ إِلَّا مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ” [القصص: 84]؛ ومن خلال قوله عزَّ من قائل: “أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن يَسۡبِقُونَاۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ” [العنكبوت: 4]. وأيضًا، من خلال قوله جلَّ جلاله: “وَٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِهَا وَءَامَنُوٓاْ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ” [الأعراف: 153].
إذ، عبر هذه الآيات الكريمات يأتي مصطلح “ٱلسَّيِّـَٔاتِ” أيضًا مرتبطا بـ”عمل الإنسان”؛ وفي الوقت نفسه، يأتي مع تثبيت حرف الألف للدلالة على الجانب المادي العضوي للمصطلح.
وهو ما يتوافق، كذلك، مع مصطلحي “الكسب” و”المكر”، اللذين يأتيان في بعض مواضع ورود مصطلح “ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ” مرتبطًان به؛ كما في قوله سبحانه: “وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةِۭ بِمِثۡلِهَا وَتَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّةٞۖ مَّا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِنۡ عَاصِمٖۖ…” [يونس: 27]؛ وكذلك، كما في قوله تعالى: “مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ جَمِيعًاۚ إِلَيۡهِ يَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلۡعَمَلُ ٱلصَّٰلِحُ يَرۡفَعُهُۥۚ وَٱلَّذِينَ يَمۡكُرُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدٞۖ وَمَكۡرُ أُوْلَٰٓئِكَ هُوَ يَبُورُ” [فاطر: 10].