رؤى

الأزمة الليبية.. والأمن الحدودي للدولة الجزائرية (2-3)

استند الموقف الجزائري من الأزمة الليبية – في أحد أهم مؤشراته- إلى منظور الأمن الحدودي للدولة الجزائرية؛ وهو منظور يعتمد على العقيدة الأمنية التقليدية، التي ورثتها الجزائر منذ استقلالها عن الاستعمار الفرنسي.

واستنادًا إلى التمسك بمبدأ استقلال القرار “الأمني/العسكري”، الذي يرتبط على نحو وثيق بإرث حرب تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي، استطاعت الجزائر المحافظة على المسافة الفاصلة نفسها من أطراف النزاعات؛ وهذا ما مكَّنها من تحقيق عدد من الإنجازات على مستوى الوساطة، في عدد من النزاعات، مثل: الوساطة بين العراق وإيران عامي 1975 و1988، وبين إثيوبيا وإريتريا عام 2000، وبين إيران والمملكة العربية السعودية عام 2016، في إطار منظمة أوبك، وبين الحكومة المالية ومتمردي شمال مالي عام 2015.

رغم ذلك، لم تستطع الجزائر الحفاظ على المسافة الفاصلة نفسها، بين الأطراف المتصارعة على الساحة الليبية، خصوصا بين شرق ليبيا وغربها. إذ اتخذت موقعا أكثر اقترابًا من غرب ليبيا، عن شرقها.

الأمن الحدودي

مثل هذا الموقف، يعود إلى المنظور الذي اعتمدته الجزائر، في التعامل مع الأزمة الليبية، أي منظور الأمن الحدودي للدولة الجزائرية.

وهو ما يتبدى بوضوح عبر أكثر من جانب:

فمن جانب، يقتضي تأمين الحدود وجود دولتين قائمتين قادرتين على جعل تلك “الحدود” آمنة ومستقرة على طرفيها؛ غير أن انهيار إحدى الدولتين يحوّل “التخوم” المشتركة بينهما إلى منطقة عدم استقرار.

ومن الواضح، أن هذا ما ينطبق تماما على حالة الجزائر؛ فقد أدى انهيار الدولة في ليبيا منذ عام 2011، إلى انكشاف الحدود الجزائرية الممتدة أمام تهديدات أمنية، تزيد من تكلفة تأمين الحدود، ما يجعل التخوم الجزائرية الشرقية والجنوبية الشرقية، خاصة أنها ذات طبيعة صحراوية جغرافيًا وديموغرافيًا، فضاءً خصبًا لنشاطات الجماعات الإرهابية وشبكات الجريمة المنظمة بكافة أشكالها.

وهو ما يعني، من المنظور الجزائري، أن المسألة لا تتعلق بالأزمة الليبية في حد ذاتها، بقدر ما تتعلق بعواقب انهيار الدولة في ليبيا على الأمن القومي للجزائر، وتحديدًا على استقرار تخومها، فضلًا عن حدودها، الشرقية والجنوبية الشرقية.

إذ، بعد سقوط القذافي، لم تكن الجزائر بعيدة عن الأحداث في ليبيا؛ فمع الانقسام الذي تشهده الساحة السياسية الليبية، قامت الجزائر بالدعم السياسي والدبلوماسي للحكومة في طرابلس، حكومة الوفاق التي كان يترأسها فائز السراج، وبعدها حكومة الوحدة التي يرأسها عبد الحميد الدبيبة.. ولعل ذلك يعود، في ما يعود إليه، إلى القرب الجغرافي للعاصمة طرابلس من الحدود الجزائرية؛ على عكس الشرق الليبي، الذي يبتعد كثيرًا عن هذه الحدود؛ وربما هذا ما يُفسر أحد أسباب الموقف الجزائري المناهض للقائد العام للجيش الليبي، المشير خليفة حفتر.

من جانب آخر، “كانت” الجزائر تتمسك بمبدأ “عدم مشاركة الجيش الجزائري في أية عمليات عسكرية خارج حدود الوطن”؛ لكن تغير طبيعة التهديدات التي صارت تتعرض لها الجزائر، من محيطها الإقليمي بصفة عامة ومن جوارها الليبي على وجه الخصوص، جعل الكثيرين يدعون إلى إعادة النظر في هذا المبدأ، ووجوب تغييره.

ولعل ذلك ما دفع الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، إلى إجراء تعديلات على الدستور في عام 2020، أهمها أنه لأول مرة في تاريخ الجزائر منذ الاستقلال، أصبح في الإمكان قيام القوات المسلحة الجزائرية بمهمات خارج الحدود، خاصة أن الجزائر هو البلد الأكبر مساحة في أفريقيا، ومحاط بمناطق نزاع، كما في ليبيا شرقًا ومنطقة الساحل جنوبًا.

وجاء ذلك في مواد وصلاحيات رئيس الجمهورية “القائد الأعلى للقوات المسلحة ومسؤول الدفاع الوطني”، وهي الصفة التي يتمتع بها حاليًا الرئيس تبون، الذي يتولى وزارة الدفاع، كما كان سلفه بوتفليقة طيلة 20 عامًا من الحكم. ونصت المادة 91 في فقرتها الثانية: “يُقرر (رئيس الجمهورية) إرسال وحدات من الجيش الوطني الشعبي إلى خارج الوطن، بعد مصادقة البرلمان بأغلبية ثلثي أعضاء كل غرفة”.

وبالرغم من هذه التعديلات على الدستور الجزائري، على الأقل في ما يخص إمكانية التدخل عسكريًا في الأزمة الليبية، إلا أن صانع القرار الجزائري لم يكن ليصرف النظر عن توازنات القوى المتدخلة في الصراع الليبي؛ خاصة وأنه عامل مؤثر على نحو كبير في تقييد هذا المنحى. لذلك، يبدو خيار الجزائر بشأن التدخل عسكريًا محدود. فضلًا عن أن تدخلها من شأنه أن ينقض دعوتها باعتبار الحسم العسكري خيارًا فاشلًا في حل الأزمة الليبية.

أضف إلى ذلك، أن مثل هذا التدخل سيؤدي إلى الاصطدام  بتركيا، ومن ثم التضحية بالتطورات التي عرفتها العلاقات “الجزائرية – التركية” خلال السنوات الأخيرة؛ وأيضًا الاصطدام بإيطاليا التي تُعد شريكًا أساسيًا للجزائر في سوق الغاز.

وفي الوقت نفسه، لا تستطيع الجزائر التدخل عسكريًا إلى جانب الحكومة الليبية في طرابلس، سواء كانت حكومة السراج أم حكومة الدبيبة، لأنها ستجد نفسها في مواجهة مع روسيا التي تُعد هي الأخرى شريكًا استراتيجيًا لها، خاصة على صعيد التسليح.

الأمر نفسه، كان ينسحب على فرنسا، خشية أن يُهدد التدخل الجزائري عسكريًا بانهيار التنسيق الأمني المشترك بينهما في مالي؛ لكن بعد قرار فرنسا سحب قواتها العسكرية من مالي، في 15 أغسطس 2022، وإنهاء العمليتين العسكريتين “برخان” الفرنسية و”تاكوبا” الأوروبية، بعد تسعة أعوام من التدخل الفرنسي، عسكريًا وسياسيًا وأمنيًا.. (بعد القرار الفرنسي)، توجهت الجزائر إلى التنسيق الأمني في مالي مع روسيا، في إطار سعي الأخيرة إلى استغلال “الفراغ” الذي تركه الانسحاب العسكري الفرنسي من مالي، عبر تعزيز وجودها العسكري في البلد الذي تعصف به الاضطرابات السياسية والأمنية.

التمدد القبلي

وبالتالي.. يُمثل استمرار الأزمة الليبية مزيدًا من الضغوط على الدولة الجزائرية، ليس فقط من المنظور الأمني والسياسي؛ ولكن أيضًا على المستويين الاقتصادي والاجتماعي.

فقد برز بشكل واضح، مدى ما يسببه تمدد المكونات الاجتماعيىة القبلية بين ليبيا والجزائر من إشكاليات، كما في حال قبائل الطوارق؛ حيث تبدت خطورة حركة تحرير أزواد، في شمال مالي، والتي تُعد حركة انفصالية عمادها من الطوارق؛ وهو ما يعني إمكانية بروز مطالبات بالتوسع الانفصالي للطوارق في الداخل الجزائري.

كما أن تنامي خطر تفكيك الدولة الليبية، وتقسيمها وفقًا لسيناريوهات متعددة، كمشروع “الفدرلة” عبر تقسيم الدولة إلى ثلاثة أقاليم “برقة، طرابلس، فزان”، يُساهم في إذكاء النزعات العرقية ومخططات التقسيم والحركات الانفصالية في عموم منطقة المغرب العربي، وبصفة خاصة الجزائر.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock