إذا كان للنزاعات المسلحة، بمختلف مواقعها الجغرافية، انعكاسات وارتدادات إقليمية، من خلال تأثيراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، المباشرة وغير المباشرة؛ فإنها في حال السودان، تنطوي على عواقب وتداعيات أكثر منها تأثيرات. بل، إن الأمثلة على وجود ما يترتب على النزاع المسلح “السوداني – السوداني” حاضرة من التجارب القريبة، حتى أنها تخطت مسارات مُحددة يؤثر من خلالها النزاع الحالي في دول الجوار.
وبحكم تعرّض السودان الطويل للحرب الأهلية -في جنوبه وغربه- فإنه من السهولة افتراض وجود تأثيرات فعلية للصراع الحالي، والأزمة السودانية عمومًا، حتى لو جاءت هذه المرة مُبرّأة من الغموض الذي اكتنف علاقات السودان مع دول الجوار، خلال نزاعاته وصراعاته الداخلية السابقة.. إذ إن الصراع السوداني قد أضاف بُعدا جديدا للأزمة الداخلية -السياسية والاقتصادية والأمنية- وأصبح مُكملا لدائرة الصراع في منطقة القرن الأفريقي؛ وهو في الوقت نفسه، ليس بعيدا عن النزاعات في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل، التي امتدت بدورها من مالي إلى دول الجوار، خصوصا النيجر وبوركينا فاسو، فضلا عن الجابون.
رغم ذلك، فإن اللافت في الأمر، أن الحرب التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، قد ساهمت في المزيد من التغطية على ما يجري في السودان من تطورات عسكرية وتحركات سياسية. إذ بعد عدة أشهر من التركيز الإقليمي والدولي، على ماجريات الصراع بين قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع- نُسي الصراع السوداني؛ بتأثير ما يحدث في غزة؛ فضلا عن التوتر الناشب بين دولة الاحتلال الصهيوني وإيران.
والواضح، أنه كما ساهم اشتعال الصراع في السودان، في سحب الأضواء الإعلامية من الحرب الروسية الأوكرانية -ولو نسبيا- فقد سحبت الحرب على غزة الأضواء من صراع السودان.
ومع سحب الأضواء الإعلامية من الصراع السوداني، فقد اشتدت وتيرة هذا الصراع؛ بل وامتد إلى مناطق أخرى في الداخل السوداني. وكما يبدو.. فإن هذا الصراع، الذي يدور بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، يُهدد بتفاقم الانقسامات الاجتماعية، وتأليب النخبة المهيمنة سياسيا الواقعة على وادي النيل، التي ينتمي إليها قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، ضد من يعيشون على أطراف الدولة السودانية، الذين يمثلهم قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو.
ورغم التأكيد بأن القسمة السودانية ليست على هذا الشكل الحاد؛ إلا أن الصراع الحالي، الذي يختلف عن كافة الصراعات السابقة، هو ما يؤشر إلى مثل ذلك التقسيم، حيث يسود الصراع العسكري في المقام الأول قلب السودان وليس أطرافه؛ وهو ما يُساهم في إطالة أمد الصراع، من منظور أن قوات الدعم قد أبرمت عدة اتفاقيات مع الجماعات المسلحة، في معقلها في دارفور، للتركيز على القتال في قلب البلاد.
أضف إلى ذلك، أن هذا يُتيح الفرصة لعودة بعض الجماعات المسلحة، للدخول على خط الصراع المسلح في السودان؛ إما على نحو فردي أو من خلال تحالفها مع أحد الأطراف المتحاربة. بل إن هذا الخطر ما زال قائما، إذا ما أخذنا في الاعتبار الأنماط المتكررة تاريخيا، حيث يبرز تقلّب العلاقات بين الجماعات المسلحة، وتكرار إقامة التحالفات وإعادة تشكيلها؛ هذا فضلا عن التداعيات الناتجة من امتدادات هذه الحركات على مستوى الإثنيات والقبائل السودانية.
في هذا الإطار، يمكن توقع أن تُفرز الأزمة السودانية صياغة “عقد اجتماعي جديد”، تزداد فيه النزاعات والصراعات الإثنية؛ بل إن بعض الإثنيات في دول الجوار الجغرافي للسودان، سوف يستفيد من هذا الوضع، خاصة تلك الإثنيات ذات التداخلات العرقية في مناطق التماس الحدودية مع السودان؛ وهو ما يمكن أن يُشكل تهديدا كبيرا لاستقرار دول الجوار.
فالقبائل ذات الأصول الأفريقية، في غرب السودان، وخصوصا في المناطق الملتهبة مثل دارفور، تجد فرصتها في الالتحام بقبائل المنطقة، مستفيدة في ذلك من الهشاشة الأمنية المتزايدة؛ وكذلك، ستفعل القبائل في شرق السودان، خاصة تلك المتداخلة مع القبائل الإثيوبية، ما يجعل مناطق النزاعات والصراعات المتجددة -في منطقة الفشقة وغيرها- بيئة خصبة لتوالد مجتمع بإمكانه فرض واقع جديد على السودان.
مثل هذا التأثير، يعتمد على مجموعة من العوامل، لعل من أهمها: مدى استمرارية الأزمة السودانية بوضعها الحالي، نتيجة استمرار الصراع المسلح؛ ومدى تأثير حجم الحدود الطويلة، الممتدة على طول غرب السودان وشرقه. أضف إلى ذلك، نتيجة الصراع المسلح الحالي، سواء بانتهائه أم باستمرار تداعياته، وتوسع رقعته التي ربما تمتد إلى إقليم دارفور غربًا وإثيوبيا شرقا ودولة جنوب السودان جنوبا؛ هذا ناهيك عن إمكانية دخول الحركات المسلحة السودانية، على خط الصراع المسلح الحالي، وانحيازها إلى أحد طرفي الصراع.
وبالتالي، تتبدى تداعيات الأزمة السودانية، على أكثر من صعيد؛ سواء على الصعيد الداخلي، أو الإقليمي وامتداداته على الساحة الدولية؛ خاصة إذا لاحظنا أن السودان يتأثر بنمط عدم الاستقرار الإقليمي، وكافة ارتدادات عدم الاستقرار هذا على الداخل السوداني؛ فهناك قضايا اللجوء والتأثير في الاقتصاد والتجارة والأمن الغذائي والإنفاق العسكري.. وغيرها، مما ينعكس بشكل سلبي على تنمية البلاد المتعثرة أصلا. هذا ناهيك عن قضايا النزوح واللجوء إلى دول الجوار، الناتجة عن الصراع العسكري المستمر الذي دخل عامه الثاني في 15 أبريل الجاري.
من هنا، تتبدى تداعيات الأزمة السودانية، خاصة في شقها الأمني، على ثلاثة أبعاد رئيسة.. الأول، يتمثل في مدى قدرة الجيش السوداني على حسم الفوضى، التي يُمكن أن تنشأ على الحدود، خاصة في المناطق الملتهبة غربا وشرقا؛ والثاني يتعلق بوضعية الحركة بين الحدود، وحالات اللجوء إلى خارج السودان، وبروز تعقيدات أخرى نتيجة هذه الحركة، مثل: التعديات على الأراضي، وانتشار الجرائم، والإرهاب، وتهريب البشر، وتجارة المخدرات والأسلحة.
ثم، البعد الثالث، الذي يختص بإشكالية اعتماد المنظومة السياسية السودانية، على المحاور الإقليمية في حل مشكلاتها؛ إذ إن كل الحلول للأزمات السابقة، أثناء الحرب الأهلية في جنوب السودان، كانت بالارتكان إلى الحل السهل، أي إجراء استفتاء على الانفصال، ثم تنفيذه في حيز زمني ضيق.
إلا أن الملاحظة الواجب تثبيتها، هنا، أن هذه التداعيات ليس بالضرورة أن تتمثل في نشوب صراع مُسلح في دول الجوار السوداني؛ وإنما تتجلى في العبء الاقتصادي، الذي يتحمله الإقليم بأكمله نتيجة اللجوء عبر الحدود المشتركة، بين السودان ودول جواره الإقليمي، وهو ما يتبدى حاليا بوضوح. هذا فضلا عن الأنشطة “غير القانونية” الأخرى، التي بدأت بوادرها في الظهور مؤخرًا.. في دول الجوار.