رؤى

أبعاد التنافس الروسي الغربي.. حول ليبيا

رغم ما يبدو من توافق بين الدول الغربية الخمس، الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، على ضرورة إنهاء المرحلة الانتقالية التي تمر بها الساحة الليبية.. إلا أن هذا التوافق لا يلغي وجود قدر من التنافس بينها بخصوص المصالح الاستراتيجية لكل منها على هذه الساحة؛ بل -وهذا هو المثير للتأمل- وجود قدر كبير من التنافس بينها جميعًا، وبين روسيا التي تحاول بطرق كثيرة تثبيت موطئ قدم لها على السواحل الليبية، من جهة الشرق، أي شرق ليبيا.

ويعود مثل هذا التنافس إلى عوامل كثيرة، في مقدمتها أهمية موقع ليبيا الجيواستراتيجي؛ إذ يستند التنافس عبر ما تتمتع به ليبيا عمومًا، وشرقها بوجه خاص، من موقع جيوسياسي، وجيواستراتيجي، مميز في إطار الساحل الشمالي لأفريقيا؛ وهو ما يجعل منها دولة متوسطية تربط القارة الأوروبية بأفريقيا، حيث يصل طول سواحلها على البحر المتوسط إلى حوالي 1900 كم، تلك التي تُقابل مساحة كبيرة من جنوب القارة الأوروبية، يجعلها ذات توجه استراتيجي قوي نحو الدولة الليبية.

هذا فضلا عما تتمتع به ليبيا من تمركز جغرافي متميز على مستوى شمال أفريقيا، فهي تتوسط قوتين إقليميتين (مصر والجزائر) إضافة إلى إطلالتها على منطقة الساحل الأفريقي، بكافة ملامحه وتعقيداته، بالنسبة إلى تقاطعات الاستراتيجيات الدولية.

ويتبدى هذا التنافس عبر المقاربات الأوروبية في التعامل مع الأزمة، كما يلي: من جانب، وفي إطار انحسار النفوذ الأمريكي في شمال أفريقيا؛ لا يُتَوَقع للولايات المتحدة، في ظل إدارة بايدن، تقديم رؤى استراتيجية حول ليبيا. وفي ما يبدو، فإن الولايات المتحدة تركت المسألة برمتها إلى الاتحاد الأوروبي، فيما يشبه تاريخيًا تخلي القوى الكبرى (بريطانيا، فرنسا) عن دورها بعد الحرب العالمية الثانية، لصالح أمريكا في منطقة الشرق الأوسط.. من منظور أن الولايات المتحدة تثق كثيرًا في إيطاليا، كدولة تُعتبر “حليفًا وشريكًا استراتيجيًا” لليبيا حيث تتوغل إيطاليا هناك عبر شركة “إيني” الإيطالية الحكومية.

أضف إلى ذلك، طموحات بريطانيا بالعودة إلى شمال أفريقيا من البوابة الليبية؛ حيث تُريد لشركاتها ومستثمريها أن يكون لهم موطئ قدم في بلد به فرص جيدة للاستثمار، في حال توافر الأمن. ومن ثم، لا مناص لبريطانيا من أن تكون شريكًا في صناعة الحد الأدنى من الاستقرار في ليبيا. وفي هذا الإطار، تأتي إعادة الافتتاح الرسمي للسفارة البريطانية في العاصمة طرابلس؛ كما يأتي العمل البريطاني على بناء قاعدة استطلاع في القاعدة الجوية في مصراتة، بالتعاون الوثيق مع إيطاليا.

من جانب آخر، هناك التنافس الفرنسي الإيطالي في ليبيا؛ خاصة أن فرنسا تعتبر ليبيا المدخل الرئيسي لها بالعمق الأفريقي، وذلك في محاولة استغلال إرث القذافي السابق بأفريقيا، وما خلفته ليبيا بالقارة السمراء من استثمارات ضخمة؛ هذا فضلا عن أنها البلد الذي كان محتلا للجنوب الليبي، ويعرف خبايا تلك المنطقة وكيفية التعامل مع القادة المحليين، من تبو وعرب وطوارق، وخلق فراغات بين هذه المكونات للاستفادة منها. حيث تحاول فرنسا أن تستخدم الملف الليبي لصالح مشروعها الاقتصادي والأمني بأفريقيا.

ثم يأتي الطموح الألماني في المنافسة الاقتصادية، والدخول كشريك مهم لأفريقيا عبر ليبيا؛ ومنافسة الصين التي تعمل بصمت تام في مناطق نفوذ الغرب القديم؛ هذا رغم أن ألمانيا ليس لها إرث استعماري بالمنطقة، وسياستها الخارجية تجاه ليبيا، والشمال الأفريقي عموما، محدودة الطموح؛ حيث تتركز رؤيتها على شرق أوروبا، كمجال الحيوي مهم لها.

من جانب أخير، يبقى التوجه الروسي في التواجد المتوسطي، عبر محور “سوريا – ليبيا”؛ إلا أنه، وبعد الحرب الروسية في أوكرانيا، لا يبدو أن ثمة مقاربات سياسية ذات ملامح عقابية يستطيع بها الاتحاد الأوروبي ردع روسيا في الوقت الحالي، فالأوراق المتناثرة بين الفريقين بسوريا وإيران والعراق ولبنان وليبيا.. لا تسمح لأي منهما أن يكون الفائز الأوحد، إنها أشبه بسايكس بيكو غير معلنة، لا تفرضها المفاوضات بعد حروب منهكة، بل يفرضها الاقتصاد المنهك واختبار أي الطرفين أقدر على تحمل تبعات التحرك العسكري.

وهنا، تتبدى حرب القواعد العسكرية الأجنبية في ليبيا؛ وهو العامل الرئيس في تصاعد حدة الجدل، من جانب القوى الغربية، بشأن القاعدة العسكرية الروسية، وغيرها من القواعد؛ حيث تجري على الأرض الليبية ما يُمكن تسميته بـ”حرب القواعد العسكرية”. فمن ميناء الخُمس إلى فزان، تتصاعد حدة هذه “الحرب”، وتتصاعدة معها حدة التنافس على المميزات الجيواستراتيجية للموقع الليبي في جنوب أوروبا وشمال أفريقيا، فضلًا عن التنافس على الموارد التي تمتلكها هذه الدولة العربية.

أما الدول الأخرى، مثل تركيا التي أقرت بقاء قواتها العسكرية في ليبيا؛ أو إسبانيا التي تحاول الدخول على خط الأزمة الليبية، بسبب ملف الطاقة.. فإن مدى تأثيرها في تفاعلات الأزمة الليبية يظل محدودًا، خصوصًا في ظل التنافس القوي معها من جانب القوى الإقليمية، خصوصاً مصر والجزائر.

مواقف متباينة

خلاصة القول، أن ثمة مواقف متباينة لكبرى دول الاتحاد الأوروبي في ليبيا، وهي سياسات جزئية متعارضة في ما بينها، تستخدم فيها كل دولة قدرتها لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة. ومن ثم، ستظل ليبيا المجال الحيوي لصراع الدول الأوروبية الكبرى الأربعة: إيطاليا، بريطانيا، ألمانيا.. وفرنسا، إضافة قطعًا إلى الولايات المتحدة، وروسيا.

ومن ثم، يأتي الصراع الدولي القائم حول ليبيا، من جانب القوى الدولية الكبرى؛ حيث إن الولايات المتحدة مع حلفائها الأوروبيين، لا يمكنهم صرف النظر عن التحدي الذي يُمثله التواجد العسكري الروسي على سواحل المتوسط، والتمدد الذي يبتغيه صانع القرار الروسي على محور طرطوس السورية طبرق الليبية.

ولعل ذلك ما يساعد حكومة الدبيبة، المنتهية ولايتها، في استغلال تذبذب الموقف الدولي المتأثر بالحرب الروسية في أوكرانيا، التي ألقت بظلالها على الملف الليبي في أروقة مجلس الأمن الدولي؛ حيث يبدو الانقسام بوضوح بين التكتل “الروسي  الصيني” والتحالف “الأمريكي البريطاني  الفرنسي”.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock