أثارت استقالة الدبلوماسي السنغالي عبد الله باتيلي، وخروجه من المشهد الليبي، العديد من التساؤلات حول أسباب التعثر “الأممي” المُتكرر في حلحلة الأزمة الليبية؛ بل وحول مستقبل العملية السياسية في بلد يُعاني من الانقسام السياسي؛ منذ ما يزيد على اثني عشر عامًا. والمُثير للتأمل، أنه على عكس الركود الذي صبغ ولاية باتيلي، خلال ثمانية عشرة شهرًا، إلا أنه اختار أن يكون خروجه صاخبًا.
فقد شنَّ الرجل هجوما كبيرا، في إحاطته الأخيرة إلى مجلس الأمن الدولي، في 15 أبريل الماضي، على المسئولين الليبيين المتصدرين للمشهد السياسي في البلاد. وبدا وكأنه يعزو استقالته إليهم، عندما أكد في إحاطته أمام المجلس بأن كل محاولاته “قوبلت بمقاومة عنيدة، ورغبة في تأجيل الانتخابات إلى أجل غير معلوم”.
وأيًا يكن الأمر، فإن اللافت أن استقالة باتيلي جاءت بعد عدة أسابيع من تعيين نائبة له. ففي الأسبوع الأول من مارس الماضي، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرش، عن تعيين الأمريكية ستيفاني خوري، نائبة لرئيس البعثة في ليبيا، عبد الله باتيلي، للشئون السياسية.
استقالة متوقعة
وكما يبدو، فإن تعيين خوري نائبًا للشؤون السياسية، كان قد جاء في إطار محاولة الولايات المتحدة الأمريكية “مُزاحمة” باتيلي في الملف الليبي؛ بما يطرح التساؤل حول العوامل الدافعة للإدارة الأمريكية، لمثل هذا التوجه؛ خاصة أن أهم هذه العوامل، تمثل في التحضير لاستقالة عبد الله باتيلي المتوقعة.
فإضافة إلى أن تعيين خوري، سوف يُزيد من تمكين الولايات المتحدة من الملف الليبي، مثلما كان عليه الحال في فترة رئاسة الأمريكية ستيفاني وليامز للبعثة الأممية في ليبيا، قبل أن تُنهي مهمتها في نهاية يوليو 2022؛ فإن هذا التعيين جاء، في الوقت نفسه، كمقدمة تحضيرية لاحتمال تقديم عبد الله باتيلي لاستقالته، خاصة بعد أن فقد ثقة عديد من الأطراف السياسية الليبية، بما أفقد البعثة دورها الداعم لإيجاد تسوية سياسية للأزمة الليبية.
بل، إن اللافت أن عبد الله باتيلي، الذي كان قد تسلم مهام منصبه في منتصف أكتوبر 2022، كان يواجه عدة انتقادات بـ”الانحياز” إلى صف حكومة “الوحدة الوطنية” التي يترأسها عبد الحميد الدبيبة في طرابلس غرب ليبيا؛ وأن هذه الانتقادات لا تتوقف عند حدود حكومة “الاستقرار” المُكلفة من البرلمان، والتي يقودها أسامة حماد؛ ولكن الأمر تعدّى ذلك إلى عدد من الأحزاب السياسية الليبية، التي رأت أن أداء البعثة الأممية يُنذر بعواقب وخيمة، وكانت تُطالب الأمين العام للأمم المتحدة برفع أداء البعثة، بما يتلاءم مع حجم ما تواجهه البلاد من تحديات.
بناءً على ذلك، وبعد استقالة باتيلي، فإن الأمريكية ستيفاني خوري هي من سيتولى مهامه مؤقتًا؛ ويُعد ذلك إعادة لسيناريو الولاية المؤقتة لمواطنتها ستيفاني وليامز، التي تولت (بالإنابة)، في الفترة من مارس 2020، إلى يوليو 2022، مهام المبعوث الأممي الأسبق غسان سلامة.
ومن ثم، يبدو أنه “من المحتمل جدًا” رؤية خوري تبرز كمبعوثة “خاصة مؤقتة”، وهو ما سيكون ترتيبًا يسمح للولايات المتحدة بقيادة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، دون الاضطرار إلى مواجهة “الفيتو الروسي” في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
وإذا كان تعيين ستيفاني خوري خلفًا لريزيدون زينينغا، من زيمبابوي، الذي كان قد شغل منصب أمين عام مساعد ومنسق لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، وهو المنصب الذي استحدث بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2542 لسنة 2020؛ فإن تعيين خوري يأتي ليؤكد عودة الأهتمام الأمريكي بالساحة الليبية، والانخراط في تفاعلاتها.
إذ، تبدو ملامح هذه العودة الأمريكية، في الاهتمام بالملف الليبي، من خلال اختلاف نهج إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، عن سابقيه، خاصة باراك أوباما ودونالد ترامب؛ من منظور أن الأول قرر الانكفاء عن ليبيا، في حين اهتم الآخر بسحب بلاده بعيدًا عن “حروب الآخرين”، وفق تعبيره الشهير.
لكن مع وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، والمُطالبة الأمريكية من “تركيا وروسيا الشروع بسحب قواتهما من ليبيا”، بدا أن بايدن اتجه نحو رسم استراتيجية أمريكية جديدة، في التعامل مع تفاعلات الساحة الليبية؛ وهو ما يتضح عبر تعيين الأمريكية ستيفاني خوري، الذي جاء بعد أن تعالت الأصوات التي انتقدت، ولا تزال، البعثة الأممية للدعم في ليبيا، ورئيسها عبد الله باتيلي، بأنها سبب رئيس في حالة “التجمد السياسي”، التي تمر بها ليبيا.
ومن ثم، يبدو أن الولايات المتحدة تستشعر ضرورة إيجاد تسوية سياسية، بين الأطراف الليبية، من خلال محاولة تحريك حالة الجمود، السياسي؛ وبالتالي، جاء اختيار ستيفاني خوري، ذات الأصول اللبنانية، والخبرة الطويلة في المنطقة العربية، التي ربما تساعدها على النجاح في جمع الأطراف الليبية، على طاولة “مباحثات الانتخابات”، لاسيما وأن باتيلي كان مترددًا في عددٍ من القرارات في الفترة الأخيرة.
في هذا السياق يُمكن القول بأن تعيين ستيفاني خوري، يأتي كمحاولة أمريكية في التحكم والسيطرة على الوضع السياسي على الساحة الليبية؛ خاصة بعد الانتقادات المتعددة التي طالت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، ورئيسها عبد الله باتيلي. ومن الواضح، أن هذه المحاولة تأتي بعد النجاح “النسبي” الذي حققته، من قبل، الأمريكية ستيفاني ويليامز، التي كانت نائبة للمبعوث الأممي في ليبيا، ثم مبعوثة أممية، حتى استقالتها في يوليو 2022.
ومن الواضح، أن تعيين الأمريكية ستيفاني خوري، في الوقت الذي يأتي فيه كمؤشر مُهم على العودة الأمريكية إلى الاهتمام بالملف الليبي؛ فهو، في الوقت نفسه، بمثابة “إعادة تموضع” ورغبة في تسوية المشهد أمريكيًا، خاصة في ظل التمدد الروسي جهة الشرق الليبي، والغرب أيضًا.
ومن الواضح، أيضًا، أن التحرك الأمريكي يتواكب مع محاولات روسيا في تعزيز حضورها على الساحة الليبية، كنوع من أوراق الضغط على الدول الغربية، وتحديدًا الدول الأوروبية؛ إضافة إلى اتخاذ التواجد في ليبيا كـ”نقطة ارتكاز”، في اتجاه تأكيد النفوذ الروسي في منطقة الساحل الأفريقي. إذ، تُدرك واشنطن مخاطر المحاولات الروسية في الانخراط بشكل أكبر، في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، على مصالحها.