في تطور لافت، دعا رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، في مخاطبة موجهة إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش، إلى إنهاء ولاية بعثة الأمم المتحدة “يونامي” في العراق، بشكل نهائي بحلول 31 يناير 2025؛ مُعتبرا أنها لم تعد ضرورية نظرا لإحراز العراق تقدما كبيرا نحو الاستقرار.
وفي رسالته، تحدث السوداني عن “التطورات الإيجابية ونجاحات” الحكومات المتعاقبة؛ مُشيرا إلى أنه “في هذه الظروف وبعد 20 عاما من التحول الديمقراطي، والتغلب على التحديات المختلفة، لم تعد أسباب وجود بعثة سياسية في العراق قائمة”. رغم ذلك، أو بالرغم من أن أسباب وجود البعثة لم تعد قائمة، إلا أن السوداني أعاد التأكيد في رسالته على “أهمية التعاون مع الوكالات الدولية المتخصصة، العاملة في العراق، وفق آلية المنسق المقيم”.
كانت بعثة “يونامي” قد تشكلت في عام 2003، للمساعدة في تطوير المؤسسات العراقية، بعد الغزو الأمريكي للعراق. وفي أحدث تقاريرها، في نهاية أبريل الماضي، 2024، نشرت يونامي تقريرا لتقييم عملها في العراق، وذكرت فيه جملة من التهديدات التي ما تزال قائمة في البلاد؛ وذلك في إطار الرد على طلب الحكومة العراقية بطلب “تخفيف” عمل البعثة، وصولا إلى إنهاء أعمالها في غضون أقل من عامين.
وقد كان ذلك -في ما يبدو- سببا في رسالة رئيس الوزراء العراقي الموجهة إلى الأمم المتحدة بشأن إنهاء عمل البعثة؛ خاصة أن الرسالة عبر فيها السوداني عن أسفه، لأن “تقرير الفريق الدولي لم يُفرِّق بين وجهة نظر الحكومة ووجهات نظر أطراف غير رسمية”.
واللافت، أن اللجنة القانونية النيابية في العراق، قد رحَّبت بطلب السوداني إنهاء عمل البعثة الدولية، من منظور أن وجودها “شكل من أشكال تقييد السيادة على المستوى الدولي”؛ وذلك لأن وجودها “يستند إلى قرارات الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة”. ومنذ العام الماضي، بدأت الحكومة العراقية في اتخاذ خطوات لإنهاء عمل عدد من البعثات الدولية، من بينها التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، الذي أُنشئ في عام 2014، للتصدي لتنظيم داعش الإرهابي، فضلا عن بعثة الأمم المتحدة يونامي.
رغم ذلك، فإن العديد من المتابعين للشأن العراقي يرون أن العراق ما يزال بعيدا عن الاستقرار السياسي، والتحول الديمقراطي الناشئ في البلاد؛ وذلك بسبب تكرار الصراعات، ووجود عدد من الجماعات السياسية التي لها أجنحة عسكرية، والتي كثيرا ما وقعت بينها اشتباكات، كانت آخرها في عام 2022.
ومن هنا أظهرت الحكومات العراقية المتعاقبة، الرغبة في استمرار وجود دعم عسكري أمريكي محدود ومتواصل في العراق؛ هذا رغم معارضة بعض الجهات السياسية الفاعلة في الداخل العراقي، خصوصا تلك التي على علاقة وثيقة مع طهران.
بحلول عام 2017، لم يعد تنظيم داعش يسيطر على الأراضي العراقية، واستطاعت القوات العراقية، وبدعم من قوة “المهام المشتركة” من تحرير الموصل، آخر معاقل التنظيم. ومنذ ذلك الحين، احتفظت الولايات المتحدة بوجود عسكري محدود في العراق، لتدريب وتقديم المشورة ودعم القوات العراقية، في مهامها لملاحقة فلول التنظيم. إلا أن داعش أظهر قدرة على الظهور مرة أخرى، عبر تنفيذ هجمات ضد القوات الأمنية العراقية.
وبالتالي، يبدو تنامي الانقسام السياسي على الساحة العراقية، بشأن الوجود العسكري الأمريكي؛ وهو الانقسام الذي يتنامى في إطار “عدم قانونية” العمليات العسكرية الأمريكية ضد الفصائل العراقية المسلحة. إذ، يعتمد المعارضون للوجود الأمريكي، وللعمليات العسكرية الأمريكية، داخل العراق، على وجوب إعطاء الدولة المُستقبِلة للقوات الأمريكية، “موافقة صريحة” والتعبير عن هذه الموافقة فعليًا؛ وهو ما لم يحدث، مُقارنة بالموافقة العراقية على العمليات العسكرية الأمريكية ضد “داعش”.
ومن ثم، يبدو أن احتمال تصاعد مواجهة الفصائل العراقية للقوات الأمريكية، هو الاحتمال الأرجح، في ظل رغبة البنتاغون الواضحة “عدم سحب” القوات الأمريكية من العراق؛ إذ أصبحت الدعوات العراقية الداخلية، لاسيما من الجماعات والفصائل الشيعية، لانسحاب الولايات المتحدة، مُرشحة للتصاعد، في ظل الإصرار الأمريكي على التواجد.
وكما يبدو، فإن مواجهة القوات الأمريكية، من جانب تلك الفصائل سوف يتصاعد؛ من حيث اعتماد هذه الأخيرة على الاستشهاد بالقرار البرلماني ـ غير المُلزم للحكومة العراقية ـ بانسحاب الولايات المتحدة من العراق؛ هذا، فضلا عما تعتبره الفصائل العراقية الشيعية من أن الوجود الأمريكي تحت مُسمى “الاستشارات والتدريب” ما هو إلا إصرار على التواجد تحت مُسميات مُتعددة ومختلفة.
في هذا الإطار، يبدو أن رئيس الوزراء العراقي، رغم إصراره على إنهاء مهمة يونامي؛ إلا أنه في الوقت نفسه، يحاول الابتعاد عن الصدام مع الوجود العسكري الأمريكي في العراق، ليس فقط نتيجة “الميل السياسي” ناحية الشرق الإيراني، ومحاولة إيجاد نوع من التوازن السياسي في الداخل العراقي؛ ولكن أيضا اعتمادا على عدم استفزاز الجانب الأمريكي.
على هذا الجانب الأخير، من الواضح أن السوداني يحاول جاهدا الابتعاد عن أية محاولة لاستفزاز الجانب الأمريكي؛ بل على العكس فهو يعمل على توطيد العلاقات ومحاولة الابتعاد عن الضغوط السياسية التي تُبديها أطراف متحالفة في “الإطار التنسيقي”، الذي أوصل السوداني إلى منصب رئيس الوزراء.
أيضا، محاولته إيجاد حالة من التوازن، الذي يتيح له نجاح علاقته مع واشنطن، وتعزيز الدعم لحكومته، ومنع أي تهديدات ضد الوجود الأمريكي؛ خصوصا أنه يعلم أن الحكومة السابقة، حكومة الكاظمي، كانت قد وقعت اتفاقا مع الإدارة الأمريكية، في 31 ديسمبر 2021، ينص على بقاء القوات الأمريكية وبعدد 2000 عنصرا عسكريا.
أما على الجانب الأول، محاولة إيجاد نوع من التوازن السياسي في الداخل العراقي، يُدرك السوداني الاختلاف بين موقف إيران العلني والفعلي، بشأن الوجود العسكري الأمريكي في العراق؛ إذ بالرغم من موقف طهران، والجماعات الموالية لها داخل العراق، من مسألة ضرورة الانسحاب العسكري الأمريكي، إلا أنها تُدرك تماما أن أي انسحاب أمريكي، قد يؤدي إلى عقوبات أمريكية حقيقية على العراق، خاصة مع عجز العراق عن الالتزام بالعقوبات الأمريكية، حيث يحظى باستثناء أمريكي مؤقت، يجدد كل “90” يومًا، فيما يتعلق بوارداته من الغاز والكهرباء الإيرانيين.. بما يعني أن طهران ستخسر شريانها الاقتصادي الرئيس، الذي يمدها بالعملة “الصعبة”، في ظل الظروف الاقتصادية التي تعيشها في إطار العقوبات الأمريكية والغربية عليها.