رؤى

المنهج الأنثروبولوجي.. مطبخ إعادة بناء التاريخ البشري! (1-2)

”إذا أردنا أن نعرف الوضع الراهن للإنسانية بعامة وأزمة ثقافتنا بخاصة- يترتب علينا أن نتبين أننا نجحنا وأخطأنا للسبب نفسه حصرا، وأعني بذلك طريقة تعقّلنا“ جيرزي أ. فويسيشوفسكي. (إدغار موران: المنهج، معرفة المعرفة: انثروبولوجيا المعرفة، ص8).

يسعى عالِم الأنثروبولوجيا عند دراسة الشعوب البدائية إلى الحصول على المعلومات، التي تلقي الضوء على المشكلات الرئيسة في طبيعة الثقافة وعملها، وفي سلوك الإنسان الاجتماعي. وبهذا النوع من التقاط المعلومات، نتمكن من دراسة بعض المشكلات العامة مثل: أثر المناخ أو العرق أو الاستعدادات السيكولوجية الفطرية، أو غيرها من العوامل المؤثرة في ثقافة الإنسان، وتنوع أشكالها وسياق تاريخها.

وهذا يعني ألا يغفل الباحث الأنثروبولوجي، أحداث التاريخ التي تعتبر بالنسبة له مصدرا مُهما للتجارب التي يمكنه الإفادة منها، في محاولته الكشف عن الحتمي اللاشعوري للظواهر. ونظرا لعدم إمكان التنبؤ في التاريخ، فإنه يصبح من الضروري الاحتفاظ بسجل دقيق ومضبوط للأحداث التاريخية، وإلى حد بعيد. وإذا كان شتراوس يشير في كتابه “الأنثروبولوجيا البنائية” إلى عبارة ماركس الشهيرة: “إن البشر هم الذين يصنعون تاريخهم، ولكنهم لا يدركون هذه الحقيقة”، فإن هذه العبارة التي تبرز التاريخ، تبرز أيضا الأنثروبولوجيا. فقد أتت الحاجة إلى تقصي المعلومات في السنوات الأخيرة أينما وجدت، إلى زيادة استخدام مناهج علم الأنثروبولوجيا الميدانية، في دراسة الشعوب، ليس البدائية فحسبه؛ بل والشعوب المتعلمة أيضا وفي أماكن متعددة من العالم.

ولذلك، ينتهج الباحث الأنثروبولوجي منهجا محددا في بحثه، ويستخدم مجموعة من الوسائل والأدوات للحصول على بياناته. ويتبع مجموعة من الخطوات قبل القيام بالبحث وفي أثنائه، كما يواجه بعض الصعوبات والمشكلات عليه أن يتعامل معها ببدائل مناسبة. فقد كان اهتمام الباحث الأنثروبولوجي الأول، منصبا على ملاحظة القوانين الرئيسة العامة التي تحكم المجتمعات الإنسانية، أو الكشف عنها، وواجهته مجموعة من الصعوبات، لكنه لم ييأس من إنجاز بحثه كاملا، ولا سيما أن نموذج الثقافة الإنسانية ليس بسيطا وليس سهلا.

إن من الميزات الأساسية للمنهج العلمي – الميداني ذلك الارتباط الوثيق بين النموذج النظري والنموذج المنهجي، والمنطوي بالتالي على استخدام التقنيات الكمية في الدراسات الأنثربولوجية، والذي يشبه إلى حدٍ بعيدٍ ذلك الارتباط بين النظرية والمنهج في العلوم الجديدة، التي ما زالت موضع نقاشات حادة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا؛ هل طُهيت سلوكياتنا وأعدّت في مطبخ التطور البيولوجي والتحولات العضوية عبر التاريخ؟ على اعتبار أن أي خلل في التركيبة البيولوجية سوف ينعكس على السلوك الإنساني.

في حقيقة الأمر، تسعى الدراسات البيولوجية المعاصرة إلى إعادة بناء التاريخ للنوع البشري، كيف تطور شكل الإنسان البيولوجي القديم حتى وصل إلى وقتنا الحالي؟

فعندما يتعرفون على الكيفية التي تطوَّر فيها شكل الإنسان، كيف كان شكله منذ آلاف السنين يلجئون إلى بقايا الإنسان القديم -هياكل عظمية “المستحاثات”- التي خلّفتها العوامل الجيولوجية الزلازل والرياح وسقوط الأمطار الغزيرة.

* ما هي التطورات التي كانت السبب في انحراف النوع الإنساني عن السلسلة التي كان يشترك معها؟

* ما الذي تغير في شكل الإنسان بشكل عام؟

* ما هي العلاقة الكامنة بين التركيب البيولوجي من جهة والثقافة، والسلوك من جهة أخرى؟

من الملاحظ أن هناك تعددا في الاتجاهات التي تتناول الأنثروبولوجيا، وقد تزايد ما يكتب عن هذا العلم خاصة في العقود الأخيرة، ما يدل على حداثته، وأنه ما زال يصنع تاريخه، وتعتبر الأنثروبولوجيا من أحدث الدراسات في العلوم الإنسانية؛ إذ لم تتجاوز القرن الأول أو يزيد قليلا من عمرها الأكاديمي إذا وضعنا في الاعتبار أن العالم فريديريك أوغست راوخ Frederick A. Rauch (1806- 1841) كان أول من استخدم مصطلح أنثروبولوجيا بمفهوم يختلف عن مفاهيمه السابقة التي كانت تتضمن معنى فلسفيا يتصل بدراسة النفس، ثم اقتصر على دراسة السلالات. ومن خلال هذه الرؤية الموجزة سوف نسعى إلى تسلط الضوء على مفهوم المنهج الانثروبولوجي واستخداماته وأدواته (الملاحظة والمقابلة) وذلك من خلال البحث في المراجع العلمية المختصة بالبحث العلمي والتي تبحث في الأنثروبولوجيا.

1- مفهوم المنهج الأنثروبولوجي: يعتبر المنهج هو الطريقة التي يتبعها الباحث في دراسته للمشكلة أو الظاهرة؛ لاكتشاف الحقيقة وللإجابة على الأسئلة والاستفسارات التي يثيرها البحث، وهو البرنامج الذي يحدد لنا السبيل للوصول إلى تلك الحقائق وطرق اكتشافها، وأما الدراسات الاجتماعية فهي العلوم التي تهتم بدراسة الإنسان، وعلاقته بالبيئة المحيطة به، وتأثيره فيها وتأثره بها، كعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم التاريخ. ويعد مفهوم المنهج الانثروبولوجي في الدراسات الاجتماعية، هو منهج وصف الواقع كما هو تماما، واستنتاج الدلالات والبراهين من وقائع مشاهدة.

ويعرف المنهج الأنثروبولوجي بشكل عام على أنه علم الإنسان وهو العلم الذي يسعى لدراسة مجرى التطور الإنساني من الناحيتين البيولوجية والثقافية والقوانين والمبادئ التي تحكم هذا التطور والارتباطات التي بين الجوانب الطبيعية المختلفة للإنسان، وعادات الشعوب في الماضي والحاضر والأنماط التي تُميّز مجتمعات معينة دون غيرها. وبحسب المدرسة الإنجليزية تنقسم الأنثروبولوجيا إلى: طبيعية وثقافية واجتماعية. وبحسب المدرسة الأمريكية فتقسم إلى: طبيعية وثقافية.

أما التعريف العلمي للمنهج الأنثروبولوجي فيعرف بأنه، هو منهج شامل لدراسة الإنسان، ولا يكتفي بدراسة ناحية واحدة أو مظهر واحد من مظاهر حياته المعقدة، أو يقصر اهتمامه على دراسة تكوينه الفيزيقي فقط، وإنما يحيط بكل خصائصه ومقوماته البيولوجية والاجتماعية والثقافية، سواء في الماضي البعيد أو الماضي القريب أو الحاضر.

ويعرف في الدراسات الاجتماعية، بأنه جزء من المنهج الكيفي، ويعتمد على المعايشة والملاحظة وتكون المعايشة فيه بشكل فعلي ضمن مجتمع الدراسة، وهو يستند على تحليل وتفسير الظاهرة أو المشكلة موضع الدراسة، وكذلك هو دراسة السلوك الذي يتخذ نظم اجتماعية، كالعائلة ونسق القرابة والعادات الدينية والأعراف وغيرها داخل المجتمع محل الدراسة.

لقد تنوعت واختلفت مناهج البحث المستخدمة في الفكر الأنثروبولوجي، وكان السبب الرئيس في حدوث هذه الاختلافات في اهتمام الباحثين في مجال الأنثروبولوجيا، والمراحل التاريخية لتطور الانثروبولوجيا، كما كان لتأثر الفكر السوسيولوجي والأنثروبولوجي بالتيارات الفكرية الكبرى من مرحلة زمنية لأخرى من أهم أسباب تنوع واختلاف مناهج البحث.

في واقع الأمر، ساهم العالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم، في معالجة الظواهر الاجتماعية من خلال المنهج العلمي الأمر الذي ترك أثرا كبيرا لدى الأنثروبولوجيين، كما أنه قد أثار عددا كبيرا من القضايا في الفكر الأنثروبولوجي.

تأثر عالم الأنثروبولوجيا البريطاني راد كليف براون بالمنهج الدوركايمي؛ وسعى إلى إكساب الأنثروبولوجيا الاجتماعية خصائص العلم الطبيعي، حيث إنه كان ينظر للأنساق الاجتماعية على أنها أنساق طبيعية؛ وليس هناك أي داعٍ لكي يعرف تاريخ نشأة هذه الأنساق وتطورها.

وهكذا يدين رادكليف براون في اتجاهه النظري كثيرا لدوركايم؛ في ما يخص تأكيده على أهمية البناء في المجتمع والوظائف الخاصة بمختلف النظم الاجتماعية. وأدى هذا إلى كثير من النقد لاتجاهه باعتباره شديد الجمود والآلية. وعلى أي حال فقد كان براون معلما ممتازا، وقد ظهر تأثيره من خلال عدد التلاميذ الذين تأثروا به، أكثر مما ظهر من خلال الأعمال التي نشرها المحدودة العدد نسبيا. وقد فضل أن ينشر دراسات ليعرف فيها ما أطلق عليه “علم الاجتماع المقارن”، المنوط به أن يضع القواعد التي تحكم العلاقات الاجتماعية البشرية. وربما كان أوسع أعماله انتشارا كتاب “البناء والوظيفة في المجتمع البدائي”، الصادر عام 1952، وهو من الكلاسيكيات المعترف بها في الأنثروبولوجيا الاجتماعية، والتي أوضحت بجلاء العديد من المفاهيم التي تستخدم الآن في هذا العلم.

كما يوجد هناك عدد من المناهج الكبرى في مجال الأنثروبولوجيا، ويعد منهج الأنثروبولوجيا والمنهج الطبيعي أكبرها. حيث نظر راد كليف براون إلى علم الاجتماع على أنه علم طبيعي، وذهب إلى أن المجتمع عبارة عن نسق طبيعي يعيش وفق مجموعة من القواعد والقوانين. كما وضّح بأن الهدف الأساسي من إجراء الدراسات والأبحاث حول المجتمع هو التوصل إلى كشف وصياغة هذه القوانين بالشكل الصحيح والسليم.

ويعتبر براون أن الأنساق الاجتماعية هي عبارة عن أنساق طبيعية، لذلك فمن الطبيعي جدا أن يُستخدم المنهج الطبيعي في دراستها، على اعتبار أن نسق المفهومات يحدد معنى البناء الاجتماعي والوظيفة الاجتماعية.

ونتيجةً لذلك فقد رأى عدد كبير من العلماء، أن المنهج المناسب للأنثروبولوجيا، هو المنهج الطبيعي. لقد كان تطبيق المنهج الطبيعي في الأنثروبولوجيا الطبيعية التي اهتمت بدراسة الجانب الفيزيقي للإنسان ناجحا للغاية، أما بالنسبة للأنثروبولوجيا الاجتماعية فقد كان من غير الممكن أن تكون طبيعية أو أن يطبق عليها المنهج الطبيعي، غير أنها تشترك مع بعض العلوم الطبيعية في مجموعة من النقاط.

إلا أن بروان ذهب إلى أن المنهج التجريبي هو المنهج العلمي الوحيد الذي بإمكاننا من خلاله التوصل إلى التعميمات الاستقرائية، كما قال بأن الملاحظة التجريبية هي الملاحظة الموجهة ببعض التصورات العامة، ومن خلالها يمكن التوصل إلى التعميمات الاستقرائية التي يستقرئها الباحث من المشاهدة التجريبية المنظمة، والتي تصدق على عدد من الظواهر الاجتماعية بوصفها نوعا خاصا من الظواهر الطبيعية. فالهدف الذي يسعى إليه براون من كل هذا أن يطبق المنهج التجريبي على الظواهر الإنسانية ما يسهم في التوصل إلى اكتشاف القوانين التي تخضع إليها تلك الظواهر، باعتبار أنها إحدى الحالات الجزئية.

وهذا يعني أن براون يقر بعلمية الأنثروبولوجيا الاجتماعية، إلا أنه يرى من الضروري أن يميز ما بين القوانين الطبيعة والقوانين الاجتماعية. لكن آراءه شهدت انتقادات من قِبل بعض العلماء الذين اعتبروا الأنثروبولوجيا الاجتماعية فرعا من فروع الدراسات الإنسانية.

بناءً على ما سبق سعى إيفانز بريتشارد إلى نقد وجهة نظر براون القائلة بأن الأنثروبولوجيا الاجتماعية علم خاضع للمنهج الطبيعي من خلال تأثره بالفكرة التي سادت في القرن الثامن عشر القائلة بأن المجتمعات الإنسانية عبارة عن أنساق طبيعية، ولكن بريتشارد يؤمن بأن الأنثروبولوجيا فرع من فروع الإنسانيات، كما أنه قام بتحديد الشروط والضوابط التي يجب أن يتحلى بها الباحث الأنثروبولوجي عند قيامه بدراسة المجتمعات الإنسانية، ويعد التفاعل مع مجتمع البحث من أبرز الشروط التي وضعها هذا العالم، ومن الشروط الأخرى التي فرضها التفاعل مع المجتمع، وأن يشعر الباحث بالاهتمام والانعطاف إزاء موضوع الدراسة.

حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة قسم علم الاجتماع - كلية الآداب في جامعة ماردين - حلب سابقاً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock