في محاولة لاستكمال البحث في علاقة “الرسم القرءاني”، بما يُمكن أن نُطلق عليه علم “الدلالة القرءانية”؛ لنا أن نُعيد التأكيد على خطأ مقولة “عثمانية الرسم القرءاني”؛ فالقرءان “كتاب مُنَزَّل” من عند الله سبحانه وتعالى، والرسم القرءاني توقيفي ترتيلي، من عنده عزَّ وجل، وليس عثمانيا.
وهنا، نؤكد على أن اصطلاح “الرسم القرءاني”، هو لدينا أكثر صحة من عبارة “رسم القرءان”؛ لعديد من الأسباب، أهمها: إن الأخيرة هي عبارة تُشير إلى أن هناك من تطوّع وكتب القرءان بهذا الشكل؛ أما الأولى، فهي تعني أن هذا الرسم القرءاني الذي نُطالعه مع كل مرة نقرأ فيها المصحف، هو خاص بالقرءان الكريم، وخاص بآيات التنزيل الحكيم؛ بما يعني أن له من الدلالات التي لابد من محاولة الكشف عنها، عبر تدبر الآيات القرءانية من خلال لسانها، اللسان القرءاني، وسياقها ودلالة ألفاظها وتعبيراتها واصطلاحاتها.
كتابية “ٱلۡوَحۡيِ”
يقول سبحانه وتعالى: “وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ” [الأحقاف: 12]؛ وعبر هذه الآية الكريمة لنا أن نلاحظ الـ”قَبْلِية” التي يتسم بها “كِتَابُ مُوسَى”، وأن هذه الـ”قَبْلِية” إنما تدل على “الكتابة”؛ ولأنه من المعلوم أن “كِتَابُ مُوسَى” نزل مكتوبًا، فيجري ذلك على آيات التنزيل الحكيم؛ خاصة عند مراجعة مُفتتح سورة الأحقاف، حيث يقول سبحانه: “حم ٭ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ” [الأحقاف: 1-2]؛ بما يؤكد أن القرءان الكريم نزل كتابًا مكتوبًا؛ مع التأكيد على الفارق اللساني بين “هَذَا كِتَابٌ”، وبين “الْكِتَابِ”، من حيث إن الأخير يأتي مُعرفًا بـ”ألف لام” التعريف؛ وهو فارق سوف نتناوله في ما يأتي من حديث.
وفي مُفتتح سورة يونس، يقول سبحانه وتعالى: “الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ٭ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا…” [يونس: 1-2]؛ فهل من المنطقي أن يصف الله جلَّ جلاله ما يكتبه الناس، برسم منهم، بأنه “آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ”. أضف إلى ذلك، ما تدل عليه ملاحظة سياق الآيتين الكريمتين، من أن “آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ”، هي ـ على الحقيقة ـ “وحي من الله”، بدلالة قوله تعالى: “أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ”؛ بما يعني الالتقاء الدلالي الواضح بين “أَوْحَيْنَا”، وبين “آيَاتُ الْكِتَابِ”، بما يحمله هذا الالتقاء الدلالي على تأكيد كتابية “كتاب الوحي”.
وكما قلنا من قبل، نؤكد من جديد على أن هناك أكثر من آية كريمة، تحمل دلالات تؤشر على ما ذهبنا إليه، من أن الكتاب هو كتاب مُنَزَّل من عند الله؛ ومن ثم فهو “مكتوب” وليس “شفاهيًا”؛ كما يؤكد السياق الوارد في سورة الأنعام.. يقول سبحانه: “وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ…” [الأنعام: 92].
وهذه الآية الكريمة تتكامل سياقيًا مع الآية التي تسبقها مُباشرة، في التأكيد على “كتابية الكتاب”؛ حيث يقول تعالى: “وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا…” [الأنعام: 91]. إذ إن “تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ” تؤكد بشكل لا يقبل الشك على كتابية “الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى”؛ و في الوقت نفسه، كتابية آيات التنزيل الحكيم، من منظور أن مُفتتح الآية التالية مُباشرة “وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ” [الأنعام: 92].
الرسم القرءاني
من حيث إن القرءان “كتاب مُنَزَّل” من عند الله سبحانه وتعالى، “وَبِٱلۡحَقِّ أَنزَلۡنَٰهُ وَبِٱلۡحَقِّ نَزَلَۗ” [الإسراء: 105]؛ والرسم القرءاني توقيفي ترتيلي، من عنده عزَّ وجل، وليس عثمانيًا؛ لذا قلنا ونقول ونؤكد، أن هناك ضرورة في محاولة الكشف عن دلالات الألفاظ والمصطلحات القرءانية؛ بل ومحاولة القيام بذلك عبر تدبر الآيات القرءانية من خلال لسانها، اللسان القرءاني، وسياقها ودلالة ألفاظها وتعبيراتها واصطلاحاتها؛ بل وأسلوب كتابتها من خلال الرسم القرءاني.
إذ، لما كان المصطلح، أي مصطلح، هو “أداة العقل المُجَرَدَة في الإشارة إلى المعنى”، بالشكل الذي يُعتبر فيه مثل الآلة تمامًا، لها مُجَرَدْ واحد هو اسمها المأخوذ من، والدال في الوقت نفسه على، عملها وإنتاجها؛ ومن ثم، يتوجب تعريفه، أو استكشاف هذا التعريف؛ لذا، يمكن القول بأن المصطلح يأخذ أحد جانبين اثنين، أو كليهما معًا: الجانب “المادي العضوي”، والجانب “المعنوي الوظيفي”، حيث لكل منهما التصور الخاص به في “الذهن الإنساني”.
فإذا كانت كلمات الله الكونية لها كيان مادي عضوي، يحمل معه وظيفتها، وأن ذلك “حقًا”، كما تؤكد الآية الكريمة “مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ”، وذلك في قوله سبحانه: “هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ” [يونس: 5].؛ فإن كلمات الله الموحاة، المطلوب منّا تلاوتها وتدبرها ومحاولة التوصل إلى دلالاتها، كما في قوله سبحانه وتعالى: “وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا” [الكهف: 27].. هذه الكلمات الموحاة، كلمات الله، تحمل أيضا في كينونتها مادتها العضوية ووظيفتها المنوطة بها.
وهكذا..
يمكن لنا أن نصل إلى استنتاج مفاده: إن الله عزَّ وجل قد خلق كل شيء في هذا الكون، ليؤدي وظيفة معينة، خُلِق من أجلها، ليؤديها ويقوم بإنجازها؛ وأن هذه الوظيفة تتناسب مع مادته العضوية التي خُلِق منها. يقول سبحانه وتعالى: “قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَٰمُوسَىٰ ٭ قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيٓ أَعۡطَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ خَلۡقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ” [طه: 49-50]؛ ومن الواضح عبر الآية الكريمة، أن “أَعۡطَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ خَلۡقَهُۥ” تؤشر إلى، وتدل على، كيان الشيء المادي العضوي الذي يتلاءم مع الوظيفة التي خُلِق لأجل أن يؤديها؛ وأن “ثُمَّ هَدَىٰ” تؤكد على أن المولى سبحانه وتعالى قد “أَعۡطَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ” وظيفته التي “هَدَىٰ” الشيء إليها، تلك التي خُلِق من أجلها متلائمًا مع كيانه المادي العضوي.
وهنا، لنا أن نؤكد على ما نُطلق عليه “المؤشر الدلالي” للمفهوم، والذي يُحدد الفارق بين الجانب “المادي العضوي”، وبين الجانب “المعنوي الوظيفي” للمصطلح القرءاني.
كيف؟.. للحديث بقية.