رؤى

دعـاء “المُلْك”.. مع “سُلَيْمَان” عليه السلام

في الحديث السابق حول “تسخير الجبال مع دَاوُودَ عليه السلام” وصلنا إلى أن هذا التسخير، إنما يأتي “فَضْلًا” أتاه الله سبحانه وتعالى إلى داوود، مُضافًا إلى “الطَّيْرَ” وإلانة “الْحَدِيدَ” (جعله لينًا)؛ هذا إضافة إلى أنه يأتي من خلال الأمر الإلهي “يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ”.. وهو ما يتأكد عبر قوله عزَّ وجل: “وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ” [سبأ: 10].

ولنا أن نلاحظ، أن داوود عليه السلام جعله الله سبحانه وتعالى “خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ”، وهي صفة لم تأت على طول آيات التنزيل الحكيم، إلا مع آدم عليه السلام. بخصوص آدم، يقول الحق سبحانه: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً…” [البقرة: 30]؛ أما في ما يتعلق بالنبي داوود، يقول الحق تعالى: “يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ…” [ص: 26].

لنا أن نلاحظ أيضا اختلاف السياق “خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ” في سورة [ص] عنه “فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً” في سورة [البقرة] ففي الأولى [ص: 26] ومن حيث إن مُفتتح الآية الكريمة أسلوب نداء “يَادَاوُودُ”، أي مُعرَّف، ومعروف؛ لذا تأتي “خَلِيفَةً” لتُرد إلى “كَ” في “جَعَلْنَاكَ”، أي جاءت سابقة على “فِي الْأَرْضِ”؛ أما في الثانية [البقرة: 30]، ومن حيث إن من جعله الله عزَّ وجل “خَلِيفَةً”، هو مخلوق “غير معرَّف”، وغير معروف، ولم يكن سبحانه تعالى قد أخبر به وعنه، الملائكة بعد؛ لذا تأتي “خَلِيفَةً” تالية على “فِي الْأَرْضِ” أي لتُرد إلى المكان الذي سيُصبح فيه هذا المخلوق “خَلِيفَةً”.

وكذلك، لنا أن نلاحظ، أن “النعم” التي أتاها الله سبحانه وتعالى لنبيه داوود، لم تتوقف عند حدود تسخير الجبال؛ ولكن، أتاه الله أكثر من ذلك، فقد سخر “الْجِبَالَ مَعَهُ… وَالطَّيْرَ…”، وشدد “مُلْكَهُ”، وأتاه “الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ”.. وهو ما يتضح من خلال السياق الذي ورد في سورة [ص]؛ حيث يقول سبحانه وتعالى: “اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ٭ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ٭ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ٭ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ” [ص: 17-20].

بل، إن “النعم” الإلهية وصلت إلى تعليم داوود عليه السلام “صَنْعَةَ لَبُوسٍ”؛ وذلك في قوله سبحانه: “فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ٭ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ” [الأنبياء: 79-80]. وهنا، لنا أن نلاحظ أن تعليم داوود عليه السلام “صَنْعَةَ لَبُوسٍ”، يأتي ضمن النعم الإلهية التي آتاها الله سبحانه لنبيه داوود؛ وأن الغرض من هذه النعمة أنها “لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ”.

هذا يعني أن الله عزَّ وجل لم “يُعلّم” داوود عليه السلام “صَنْعَةَ لَبُوسٍ” لنفسه، مثل تسخير “الْجِبَالَ مَعَهُ… وَالطَّيْرَ…”؛ ولكن “لَكُمْ”، من أجل أن “تُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ”. ولأنها نعمة من الله سبحانه وتعالى، فهي تستحق الشُكر؛ ولذا جاءت خاتمة الآية الكريمة في صيغة السؤال الإلهي “فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ”.

هذا عن نبي الله “دَاوُودَ” عليه السلام، وتسخير “الْجِبَالَ مَعَهُ”.. فماذا إذن عن نبي الله “سُلَيْمَانَ” عليه السلام، وتسخير “الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ”؟

لعل الملاحظة الأهم هي مُفتتح الآية الكريمة “فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا” [الأنبياء: 79]. إذ يأتي مُفتتح الآية الكريمة مباشرة، بعد الآية السابقة عليها، وهي قوله سبحانه: “وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ” [الأنبياء: 78] وهو ما يعني أن “فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ”، تختص بحكم نبي الله سليمان عليه السلام “فِي الْحَرْثِ”.

من جانب آخر، فإن “وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا” فتأتي في سياق قوله تعالى لتسبق نعم التسخير التي أتاها الله لنبيه داوود “وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ…”؛ وأيضا لتسبق “وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ…” وهو ما يؤكد على الإشارة والتنبيه الإلهيين بأن “حُكْمًا وَعِلْمًا” هي “أفضل” ما يُمكن أن يمتلكه الإنسان، في حياته ومسيرته على الأرض؛ وذلك لأن المولى عزَّ وجل قد قدّمها على سائر نعمه التي أتاها لأنبيائه “دَاوُودَ” و”سُلَيْمَانَ”؛ مثل تسخير الجبال والطير مع داوود، وتسخير الريح والجن مع سليمان.

لنا أن نتأمل أيضا دعاء نبي الله “سُلَيْمَانَ” عليه السلام، وطلبه “المُلك” هبةً إلهيةً؛ وذلك عبر قوله سبحانه وتعالى: “وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ٭ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ٭ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ” [ص: 34-36].

وكما يبدو.. فإن سياق الآية الكريمة يوضح كيف أن “سُلَيْمَانَ” طلب في البداية المغفرة “قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي” ثم طلب المُلك “وَهَبْ لِي مُلْكًا”، وذلك قبل أن يطلب اختصاصه بهذا المُلك “مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي” أي لا يرثه أحدٌ غيري “مِنْ بَعْدِي” وإلا كان قال لا ينبغي لأحد غيري؛ واختتم دعائه بالتقرب من الله سبحانه وتعالى، من خلال أحد أسمائه الحسنى “إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ”. وبالتالي جاء دعاء “سُلَيْمَانَ” عليه السلام على الصيغة “قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي… وَهَبْ لِي… إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ “.

واللافت هنا أن نبي الله “سُلَيْمَانَ” طلب في البداية المغفرة، كمقدمة وسبب لانفتاح الخيرات الإلهية في الحياة الدنيا؛ وهو -عليه السلام- هنا يسير على نهج نبي الله “نُوحٌ”، حين ما دعا قومه إلى “الاستغفار” أولًا، لأجل الخيرات الإلهية في الحياة الدنيا؛ كما جاء في قوله عزَّ من قائل: “فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا٭ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا٭ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا” [نوح: 10-12].

ويبقى التساؤل ما هي النعم الإلهية التي وهبها الله سبحانه لنبيه سُلَيْمَانَ -عليه السلام- وكان دعاء سُلَيْمَانَ بطلب المغفرة، ثم طلب الملك سببًا فيها؟

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock