رؤى

“الحريديم”.. صداع في رأس دولة الاحتلال

أثار قرار المحكمة العليا في الكيان الصهيوني، بفرض التجنيد الإجباري على طلاب المعاهد الدينية (التوراتية) المعروفين بـ “الحريديم”- ردود فعل واسعة على أكثر من صعيد، داخل دولة الاحتلال، خاصة بعد أن هدّد الحاخام الشرقي الأكبر لإسرائيل، يتسحاق يوسف بالهجرة الجماعية للمتدينين، في حال ما أجبروا على الخدمة في جيش الاحتلال.

وربما كان تجنيد “الحريديم” إجباريا هي نقطة الاتفاق الوحيدة بين الحكومة والمعارضة، إذ علّق بيني جانتس الوزير بلا حقيبة في حكومة نتنياهو بأن هذا الوقت العصيب الذي تمر به الدولة العبرية، لا يحتمل أن يتخلف أحد عن الخدمة في الجيش؛ بينما عرّض ليبرمان رئيس حزب يسرائيل بيتنا بتصريح يتسحق واصفا إياه بأن يمثل خطرا مباشرا على أمن البلاد. أما زعيم المعارضة يائير لابيد فقد قال بأن رفض التجنيد من قبل هؤلاء لا يعني سوى عدم الأحقية في أموال الدولة.. وكان نتنياهو قد أشار نهاية الشتاء المنقضي إلى أن حكومته ستجد الطريق لإنهاء إعفاء المتشددين من الخدمة في الجيش.

وتشكل طائفة “الحريديم” نسبة تتجاوز 13% داخل المجتمع الصهيوني، ما يقدّر بحوالي مليون وثلاثمئة ألف شخص.. لكنهم منعزلون عن بقية الفئات التي تشكل مجتمع دولة الاحتلال، بحكم معتقداتهم التي تُحرّم العديد من مظاهر الحياة الحديثة.

بدأ ظهور تلك الطائفة في شرق أوروبا -تحديدا في المجر- أواخر القرن الثامن عشر، ولم تكن لديهم رغبة كبيرة في الهجرة إلى فلسطين، لكن بن جوريون أغراهم بالقدوم بعد ان وافق على كل شروطهم، ومنها عدم إلزامهم بالخدمة العسكرية.

ويرى كثير من الصهاينة أن الحاجة باتت مُلِحّة إلى تجنيد هؤلاء بعد الخسائر البشرية غير المسبوقة في صفوف قوات الاحتلال في الحرب على غزة، حيث تشير التقارير إلى انتهاء خدمة ما يربو على 75000 جندي بين قتيل وجريح.. مع احتمال امتداد نطاق الحرب ليشمل الجبهة الشمالية بعد تصاعد وتيرة الأحداث وتكرار الهجمات من جانب حزب الله.

لكن يبدو أن فكرة التجنيد الإجباري ليست إلا محاولة بائسة لبعث الروح في الجيش الذي انهارت معنويات معظم أفراده، بعد أن دخلت الحرب شهرها التاسع دون بارقة أمل لانتهائها.. فليس من الممكن إجبار الحريديم على القتال دفاعا عن الكيان الصهيوني، وهم من أشد المعارضين للفكرة الصهيونية بوصفها تهديدا للحياة اليهودية التقليدية؛ فهي نموذج للتكيف مع المتغيرات والتقلبات السياسية وغير السياسية.. وهو ما يعتبره “الحريديم” مخالفا لثوابت العقيدة.

لا يقتصر تشدد اليهود الأرثوذكس على الجوانب المذكورة فقط بل تمتد إلى رفض التكنولوجيا ومنتجاتها كالهواتف والتلفاز وغيرها.. وهو ما يستحيل معه تجنيدهم؛ لذلك اقترح البعض حلا وسطا يتضمن إنشاء وحدة خاصة بهم داخل الجيش، لا تلزمهم بالقتال، لكن تكون مهمتهم فيها تقديم الدعم الديني للجنود.. لكن قادة “الحريديم” رفضوا هذا الاقتراح أيضا.

لكن هذا لا يعني أنه لا توجد تباينات فكرية داخل الطائفة نفسها إذ ينقسم الحريديم إلى تيارات متعددة ومتباينة فكريا، بينهم المؤيدون لقيام إسرائيل والمعارضون لها، كما أن لديهم مواقفهم الخاصة، إذ منهم من يعتبر أن الديمقراطية لا توافق القيم اليهودية، وغالبيتهم يرفضون الالتحاق بالوظائف العامة خارج المؤسسات الدينية؛ وهم يعتمدون على تلقي الدعم المباشر من الحكومة.

وينقسم مجتمع اليهود الحريديم إلى 3 تيارات رئيسية هي “الليتائيم” و”الحسيديم” و”السفارديم”، وتمثل نسبة الفئة الأولى 40%، فيما الثانية 35% و20% للفئة الثالثة، وينتمي الباقون إلى تيارات فرعية.. وتشير الإحصائيات إلى أن 40% من اليهود الحريديم يعيشون في القدس وبني براك، فيما يسكن 7% منهم في مستوطنة بيت شيمش قرب القدس، وتبلغ نسبتهم 53% في المستوطنات ذات الأغلبية الحريدية، خاصة في الضفة الغربية.

لا يبدو قرار المحكمة العليا خطوة نحو الحل لمشكلة قائمة منذ تأسيس دولة الاحتلال؛ بل إن دفع الأمور نحو استصدار هذا الحكم من أعلى هيئة قضائية في الدولة العبرية- من شأنه أن يهز هيبة الدولة المأزومة أكثر وأكثر.. فهو حكم لا سبيل إلى تنفيذه لاعتبارات كثيرة؛ وربما يسهم على نحو كبير في انهيار الجبهة الداخلية التي أصبحت على شفى حفرة من السقوط في هوة حالة من البؤس والضياع لم تعرفها دولة الاحتلال منذ قيامها.. فليس إلا المزيد من الهجرة العكسية من مجتمع صار منتجا لعوامل فنائه على نحو متسارع لم يتوقعه ألد أعداء الكيان الغاصب.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock