ثقافة

وداعا أحمد مرسي.. حارس التراث الشعبي وبطل معركة الدفاع عن الهوية

أفنى عمره في خدمة ثقافة وطنه؛ فخلق رحيله سحابة من الحزن الكبير؛ غطت سماء مصر من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب؛ تحوّل معها الحداد إلى حالة عامة فرضت نفسها على صفحات كافة رموز الفكر والثقافة، إنه الدكتور أحمد مرسي القيمة والقامة ورائد الأدب الشعبي الذي رحل عن عالمنا بعد رحلة عطاء حافلة.

يقول عنه الدكتور حسين حمودة “عرفته في بعض سنوات السبعينات من القرن الماضي في مدرج 18 بكلية الآداب بجامعة القاهرة، كان يُدرّس لي مادة الأدب الشعبي التي كنت وما زلت شغوفا بها، وكان متشبعا بها.. يتحرك بملابسه الأنيقة، ولكننا نتخيله بزي فلاح مصري نظيف.. في امتحان المادة فوجئت بيد تربت على كتفي، التفت وكانت يده هو”

ويضيف في كتابه فصل من كتابه “الراحلين المقيمين” نشره على حسابه بعد ساعات من رحيل الدكتور أحمد مرسي “لم أبك على رحيله بعد.. فقط أسترجع كفاحه الطويل والأدوار التي قام بها من أجل الاهتمام بالتراث الشعبي المصري العربي الذي وهب حياته له، وسعيه إلى جمعه ودراسته.. وكتاباته المهمة في مجالاته ودفاعه عنه في كل مكان، واسترجع رؤيته لظاهرة الموت في كتابه الجميل “كل يبكي على حاله” الذي تأمل فيه ظاهرة الحزن ومظاهر البكاء على الموتى في جانب مهم من جوانب الثقافة الشعبية.”

الدكتور حسين حمودة
الدكتور حسين حمودة

وعنه يقول الإعلامي والكاتب الصحفي حسين عبد الغني  لموقع (أصوات) “إن مصر فقدت  قيمة أكاديمية  وإنسانية كبيرة جدا، هو المغفور له بإذن الله د. أحمد مرسي.. رائد كبير من  رواد الأدب الشعبي وأحد حراس الثقافة الشعبية والوطنية المصرية.. عرفت الدكتور أحمد مرسي خارج مصر، وبالتحديد في العام ١٩٨٩، حين كنت أغطي زيارة سياسية  كبيرة في مدريد  لهيئة الاذاعة البريطانية – القسم العربي، وفوجئت بأن المستشار الثقافي المصري في سفارتنا بإسبانيا –وهو وقتها د. أحمد مرسي– يزورني في الفندق لمجرد علمه بأن هناك صحفيا مصريا شابا يزور إسبانيا؛ فاعتبر –بأخلاق الفروسية وابن البلد المصري الأصيل التي لم تفارقه يوما– أن من واجبه الترحيب به، وتعريفه على المدينة الساحرة ودعوته إلى واحدة من أجمل كافيهات مدريد وأوروبا آنذاك، حيث أمضى أكثر من ساعتين معه كأنها  دقائق معدودة في حديثه العذب الراقي الذي طاف بالوطن محملا بشوق البعاد والحركة الطلابية في السبعينات وبمخزون د. مرسي الذي لا ينضب من حكمة وأمثال الشعب المصري العظيم.. كما رتّب بلطفه زيارة السفارة للقاء واحد من أعظم سفرائنا  وقتها السفير محمود أبو النصر.

ورغم تباعد المشاغل عندما عاد كل منا إلى الوطن ظل التواصل من وقت لآخر؛ حتى تجدد  اللقاء المباشر لساعات عندما  كنت أعد فيلمي الوثائقي عن “الموالد المصرية الإسلامية والمسيحية التي تجسد بحق روح مصر الشعبية،  وتجسد أهم  تجليات ثقافة المصريين خارج المؤسسة الرسمية.

 وكانت مقابلته أهم مقابلة أكاديمية في الفيلم؛ إذ اثبت بعبقريته وبالدليل القاطع وبعلم غزير ينساب سهلا ممتنعا في آن واحد، تواصل ثقافة المصريين منذ الفراعنة وعدم حدوث انقطاع، سواء لمقدم  دين جديد أو غازٍ أو حاكم جديد.. وأثبت بالدليل القاطع أن غناء “حجيج” المسلمين من مصر إلى الحجاز هو نفسه مع تبديل في أسماء الشخصيات المقدسة في كل دين، هي نفسها بالحرف والكلمة دون  زيادة أو نقصان، هي نفسها غناء “حجيج” الأقباط المصريين لبيت المقدس وبيت لحم. وعثرنا على الدليل المادي ومن أفواه البسطاء من محبي القديسين وأل البيت وأولياء الله الصالحين علي دقة وصواب ما قاله عندما ذهبنا  بوصفنا صناعا للفيلم بعد مقابلته مباشرة؛ لتصوير مولد  كل من مار جرجس، وأبي الحسن الشاذلي علي التوالي؛ لنجد رواد المولدين الإسلامي والمسيحي يرددان نفس الأغاني التي لم يكن على علم بوجودها  واستمرارها في ذاكرة وقلوب شعبنا حتى اليوم غير هذا المنقب العظيم في كنوز وثقافة وأدب شعبه. رحم  الله العالم الكبير والانسان الكبير د. أحمد مرسي.

حسين عبد الغني
حسين عبد الغني

كل من اقترب أو تعامل مع الراحل الكبير يعرفه بالابتسامة التي كانت لا تغيب، وبروح ابن البلد الأصيل التي ظلت تلازمه في حله وترحاله، والتي لم تغب عنه رغم رحلته العلمية الطويلة التي دفعته إلى قضاء سنوات طويلة بعيدة عن الوطن الذي لم يفارق روحه وإن غاب عنه جسده حينا من الدهر”.

وفي مشهد نادر تبادل كل رموز مصر ومثقفيها العزاء في هذا المصاب الجلل، برحيل شخصية استثنائية من الصعب أن يجود الزمان بمثلها.

 فالكاتب الكبير إبراهيم عبدالمجيد وعلى حسابه على فيس بوك يذرف الدموع بكلماته ” ياللحزن.. يا الله بقالي سنة نفسي أشوفك، مرضي يمنعني ولما أتحسن تغيب عننا بالمرض.

أما الشاعر والناقد شعبان يوسف فقال “أستاذ الأدب الشعبي وأخونا وصديقنا الحبيب الدكتور أحمد مرسي مع السلامة وكلي حزن”.

أما الروائي نعيم صبري فقال عبر حسابه: “يوم حزين لرحيل الدكتور مرسي لروحه السلام والرحمة”.

ومن الإنجازات الكبيرة التي تحسب للدكتور أحمد مرسي حصوله على اعتراف رسمي عالمي بأن السيرة الهلالية واحدة من ملاحم التراث الشعبي المصري، وذلك بعد جهود كبيرة وممتدة بذلها في هذا الصدد من خلال الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية التي كان يتولى رئاستها.

إبراهيم عبد المجيد
إبراهيم عبد المجيد

خاض الدكتور أحمد مرسي معارك طويلة، من أجل قضية الحفاظ على التراث والهوية والتي نذر حياته من أجلها، وكان يردد دوما عبارة مأثورة في هذا الصدد “التراث جزء من الهوية وإذا ضاع التراث ضاعت الهوية .”

رحل الدكتور أحمد مرسي، ولكن دوره في الحفاظ على التراث المصري؛ سيظل يدرس للأجيال القادمة على مدى عقود طويلة، وكلنا يتذكر في هذا الصدد أجراس الإنذار التي دقها والتي حذر فيها من مساعي إسرائيل للسطو على التراث الشعبي المصري.

كان الرجل مؤمنا بمصر أولا وأخيرا؛ لذا لم يكن من أولئك الذين يضعون حسابا للمواءمات والتوازنات قبل أن يتقدموا خطوة واحدة في هذا الطريق أو ذاك.

لم يصمت في مواجهة حكم الإخوان لمصر، وكلنا يتذكر عبارته الشهيرة في هذا الصدد “الشعب المصرى بما يملكه من تراكم حضاري وثقافي ليس غبيا ولا جاهلا ولا فاقدا للأهلية، لكنه يحتاج إلى قيادة تحترم إنسانيته ولا تكذب عليه ولا تزيف عليه واقعه.”

كان د. مرسي من دعاة الحفاظ على الأصالة والتمسك بالحفاظ على الهوية المصرية، كما انتقد بشكل صريح ودون مواربة –أكثر من مرة– حمى التقليد الغربي، التي تهيمن على قطاعات واسعة من النخب والمثقفين، والذين يتناسون في ظلها أن لهذا البلد جذورا ممتدة في أعماق التاريخ تفوق بآلاف السنين بعضا من تلك العواصم الغربية التي وقعوا في غرامها.

تعلمنا جميعا من الدكتور أحمد مرسى، أن الحارة المصرية فيها الكثير من القيم النبيلة والأمثال الشعبية التي تستحق أن نفخر جميعا بها، وأن تظل حكاية تتوارثها الأجيال، بوصفها معبرا عن تراث وهوية مصرية خالصة لا تجد لها شبيها في أي مكان آخر في العالم.

ولد الدكتور أحمد مرسي في كفر الشيخ في 1 يناير عام 1944، عين معيدا في قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة في عام 1963، وكان ذلك بداية رحلة علمية حافلة تنقّل خلالها  في كبريات الجامعات في العالم، كما عمل مستشارا ثقافيا بالسفارة المصرية ومدير البعثة التعليمية بروما إيطاليا عام 1979، كما عمل مستشارا ثقافيا بالسفارة المصرية، ومدير البعثة التعليمية ومدير المعهد المصرى للدراسات الإسلامية بإسبانيا.

وللراحل عدد كبير من الكتب والمؤلفات القيمة من بينها كتاب “الأغنية الشعبية: دراسة ميدانية في منطقة البرلس” و”المأثورات الشعبية الادبية: دراسة ميدانية في منطقة الفيوم، ودراسات في الفولكلور والأغنية الشعبية ومقدمة في الفولكلور والأغنية الشعبية: مدخل إلى دراستها والفولكلور والإسرائيليات والأدب الشعبي وفنونه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock