في حديثنا عن “دلالة سؤال ٱلۡخَلۡقَ”، وصلنا إلى أن فعل “ٱلۡخَلۡقَ”، لسانيًا، يأتي ليشمل أحد جانبين: إيجاد الشيء من الشيء، أي من مادة سابقة؛ أو إيجاد الشيء من غير سابقة.
في الجانب الأول، أي فعل “ٱلۡخَلۡقَ” عبر إيجاد الشيء من الشيء، أي من مادة سابقة؛ يأتي قوله سبحانه وتعالى: “خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٖ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٞ مُّبِينٞ” [النحل: 4]. ولنا أن نُلاحظ التعبير القرءاني: “مِن نُّطۡفَةٖ”، في الآية الكريمة.
أما بالنسبة إلى الجانب الآخر، أي فعل “ٱلۡخَلۡقَ” عبر إيجاد الشيء من غير سابقة؛ يأتي قوله سبحانه وتعالى: “إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ” [آل عمران: 190].. وقوله سبحانه: “ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَۖ ثُمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ” [الأنعام: 1].
وهنا، لنا أن نُلاحظ أن الآيات التي تتحدث عن “خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ”، إنما تُشير إلى إبداعها من حيث إنها لم تكن موجودة؛ بيد أن هذا لا يعني أن “ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ” مخلوقة من عدم، بل هي مسبوقة بعدم.. والفارق كبير بين المعنيين.
وهنا، لنا أن نُلاحظ، أيضًا، أن فعل “ٱلۡخَلۡقَ”، أو “الإيجاد”، وفق خصوصيات مُعينة أو مُحددة، يتصل بشبكة من العمليات الأُخرى؛ يتقدم فعل “ٱلۡخَلۡقَ” فيها كبداية المشروع، ومن بعده تأتي “التسوية”، أو فعل “سَوَّىٰ”.
ورد فعل “سَوَّىٰ” ومشتقاته في آيات التنزيل الحكيم، في “83” موضعًا؛ بما يؤشر إلى اتساع الدورة الدلالية للمفهوم القرءاني “التسوية”، الذي ينبني على دلالات فعل “سَوَّىٰ”.
وتكاد تتوافق معاجم اللغة على الأصل اللغوي للفعل “سَوَّىٰ”، بأنه الاستقامة والاعتدال بين شيئين؛ بمعنى “ساوى الشيء الشيء، أي عادله”، أو “اعتدال الشيء في ذاته”. إلا أننا، لا نرى في ما تذكره المعاجم درجة كافية من الصحة، على الأقل من منظور أن فعل “سَوَّىٰ” يُشير إلى فعل قام به فاعل؛ وبالتالي، فالتعريف الذي تقدمه المعاجم لا يُجيب على تساؤلات كُثُر، من قبيل: ما السبب في جعل الشيء معتدلًا في ذاته، وما الهدف من مساواة شيء ما بشيء آخر؛ وهي تساؤلات لا يُمكن الإجابة عنها إلا من خلال المنظور الدلالي.. أو بالأصح، علم “الدلالة القرءانية”.
هنا نجد أنفسنا على نحو متشدد بالضرورة، نبحث عن “التسوية” كمفهوم قرءاني، في ارتباطها واقترانها مع فعل “ٱلۡخَلۡقَ”. وهنا، ورغم العدد الكبير من مرات الورود لفعل “سَوَّىٰ” ومشتقاته في التنزيل الحكيم، نجد أن الآيات التي ورد فيها الاقتران بين فعل “خَلۡقَ” وفعل “سَوَّىٰ”، هي “تسع” آيات.
يقول سبحانه: “سَبِّحِ ٱسۡمَ رَبِّكَ ٱلۡأَعۡلَى ٭ ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ ٭ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ٭ وَٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلۡمَرۡعَىٰ ٭ فَجَعَلَهُۥ غُثَآءً أَحۡوَىٰ” [الأعلى: 1-5]؛ حيث يتبدى بوضوح أن “التسوية” في هذا المجال، لا علاقة لها بالاستقامة أو بالاعتدال، كما أشار إلى ذلك البعض من المفسرين. ولنا أن نُلاحظ كيف أن فعل “سَوَّىٰ” يأتي، في الآية الكريمة، معطوفًا على فعل “خَلۡقَ”، عبر حرف العطف “الفاء” الذي يُفيد الترتيب مع التعقيب؛ بما يؤكد أن “التسوية” هي عملية تالية لعملية “الخلق”. ومن ثم، فإن “الفاء” لا تُفيد فقط الترتيب الزماني، بل تُؤشر إلى الترتيب في الدرجة أيضا.
وبالتالي، فإذا كان فعل “الخلق” هو الإيجاد على مقدار معين مقصود، فإن “التسوية” هي جعل المخلوق على الحالة والهيئة التي تناسبه. ولعل ذلك يتأكد، عبر تأمل دلالة التعبير القرءاني “بَشَرٗا سَوِيّٗا”، في قوله تعالى: “وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَرۡيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتۡ مِنۡ أَهۡلِهَا مَكَانٗا شَرۡقِيّٗا ٭ فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابٗا فَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرٗا سَوِيّٗا” [مريم: 16-17].
في هذا الإطار، يُمكن لنا القول بأن “التسوية”، من المنظور الدلالي، هي “إكمال تكوين المخلوق وفقًا لما قُدِّر له أن يكون”. وينبني ذلك على مُلاحظة أن “التسوية” مع “الخلق”، في آيات التنزيل الحكيم تأتي دائمًا بعده؛ فما من تسوية إلا وجاءت بعد عملية الخلق. وهذا التعاقب، يتبدى في قوله عزَّ وجل: “وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ ٭ فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ” [الحجر: 28-29].. وفي قوله عزَّ من قائل: “إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن طِينٖ ٭ فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ” [ص: 71-72].
فإذا دققنا النظر في هذه الآيات الكريمات، سوف نرى أن فعل “سَوَّىٰ” يأتي بعد فعل “خَلۡقَ”؛ بما يعني أن “التسوية” هي مرحلة لاحقة تتسم بعلائم “التطور” في عملية “الخلق”. وهو ما يتأكد عبر الأمر الإلهي بـ”السجود”، الذي يأتي بعد التسوية ونفخة الروح، وليس بعد عملية الخلق “فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ”.
ليس هذا فقط، ولكن يتأكد أيضا عبر تأمل كيفية التطور في عملية “خَلْق ٱلۡإِنسَٰنِ” ذاتها، وصولًا إلى عملية “التسوية” و”نفخة الروح”؛ كما في قوله سبحانه وتعالى: “ذَٰلِكَ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلۡعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ٭ ٱلَّذِيٓ أَحۡسَنَ كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقَهُۥۖ وَبَدَأَ خَلۡقَ ٱلۡإِنسَٰنِ مِن طِينٖ ٭ ثُمَّ جَعَلَ نَسۡلَهُۥ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن مَّآءٖ مَّهِينٖ ٭ ثُمَّ سَوَّىٰهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِۦۖ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَۚ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ” [السجدة: 6-9]. وكذلك، في قوله سبحانه: “أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى ٭ أَلَمۡ يَكُ نُطۡفَةٗ مِّن مَّنِيّٖ يُمۡنَىٰ ٭ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةٗ فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ ٭ فَجَعَلَ مِنۡهُ ٱلزَّوۡجَيۡنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰٓ ٭ أَلَيۡسَ ذَٰلِكَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يُحۡـِۧيَ ٱلۡمَوۡتَىٰ” [القيامة: 36-40].. وفي قوله تعالى: “قَالَ لَهُۥ صَاحِبُهُۥ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَكَفَرۡتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلٗا” [الكهف: 37].
ولعل التعبير القرءاني، في الآية الكريمة الأخيرة “ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلٗا”، لا يدل وحسب على علائم التطور الحاصل في عملية الخلق، وصولا إلى عملية التسوية كمرحلة لاحقة؛ ولكن كذلك على أن حالة “الاستواء” تؤشر إلى “الانتقال إلى حالة لاحقة مثالٍ من حالة سابقة مباينة”. ولعل ما يدل على ذلك، هو تدبر الآية الكريمة الوحيدة التي ورد فيها فعل “خَلۡقَ” وفعل “سَوَّىٰ”، مع حالة “الاستواء”، نعني قوله سبحانه وتعالى: “هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ” [البقرة: 29].
وهكذا، يأتي الخطاب القرءاني موجهًا إلى الإنسان، حيث يقول سبحانه: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلۡكَرِيمِ ٭ ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّىٰكَ فَعَدَلَكَ ٭ فِيٓ أَيِّ صُورَةٖ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ” [الانفطار: 6-8].
فهناك إذن فعل الخلق “خَلَقَكَ”، ومعه تسوية “فَسَوَّىٰكَ”، ومعهما اعتدال “فَعَدَلَكَ”؛ والتسوية تنصرف إلى معنى ” إكمال التكوين”، إلا أن اقترانها بالاعتدال يؤشر إلى مضمون الشكل، أي السابق على الاعتدال؛ وهو ما يؤشر ليس، فقط، إلى أن التسوية والاعتدال، هنا، لهما معان “مادية” وليست اجتماعية؛ ولكن، أيضا، إلى أن الآية تتضمن التأكيد على “تعدد الصور” الإنسانية بمؤثرات التكوين الطبيعي الموضوعي. وهذا يختلف قطعًا عن الاستنتاج الدارويني، إذ إن “فِيٓ أَيِّ صُورَةٖ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ”، تعني التعدد في التركيب تبعًا للمشيئة اللإلهية.
وبالتالي، يكون من المنطقي أن يأتي التساؤل الإلهي، ولكن هذه المرة موجهًا إلى المجموع الإنساني، وذلك في قوله تعالى: “ءَأَنتُمۡ أَشَدُّ خَلۡقًا أَمِ ٱلسَّمَآءُۚ بَنَىٰهَا ٭ رَفَعَ سَمۡكَهَا فَسَوَّىٰهَا” [النازعات: 27-28].
وللحديث بقية.