رؤى

الاهتمام الروسي بالملف الليبي.. دوافع وإشكاليات

في الوقت الذي كان المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الليبي، يلتقي فيه مع نائب وزير الدفاع الروسي، يونس بك يفكيروف؛ كان رئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا، محمد تكالة، يُنهي زيارته إلى موسكو، بعد لقاءات جمعته بعدد من كبار المسئولين الروس. وكما يبدو، فإن ثمة تناميًا واضحًا بدأ في التشكل للنفوذ الروسي على الساحة الليبية، عبر الانفتاح على الأطراف المتعارضة هناك.

واللافت أنه في الوقت الذي تتشابك فيه مجموعة من العوامل الدافعة إلى الاهتمام الروسي بهذه الساحة – إلا أن بعض الإشكاليات تواجهها في محاولاتها لتأكيد تواجدها في ليبيا.

تتعدد العوامل الدافعة إلى الاهتمام الروسي بالساحة الليبية، ومحاولة استهداف التوازن في العلاقات مع مختلف الأطراف الليبية.. وذلك كما يلي:

أولا: تفعيل النفوذ الروسي على الساحة الليبية؛ إذ تستهدف موسكو تحقيق تقدم ملموس في ترسيخ تواجدها في ليبيا، في غرب البلاد كما في شرقها؛ بما يعني أن المحاولة الروسية تستهدف تجاوز مسألة الدعم التقليدي لقائد الجيش الليبي، إلى الاقتراب من الأطراف السياسية في غرب ليبيا.

والمُلاحظ، أن الأمر بالنسبة إلى روسيا، لا يتوقف عند حدود توسيع النفوذ الدبلوماسي، بقدر ما هو محاولة الانخراط في تفاعلات الساحة الليبية، عبر التواصل مع كافة الأطراف، بما في ذلك رئيس حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، عبد الحميد الدبيبة الذي من المنتظر أن يزور موسكو مطلع العام القادم.

ثانيا: أهمية ليبيا الاقتصادية في المنظور الروسي؛ حيث لا تكتفي روسيا بأن تكون جزءا من المعادلة في ليبيا، وتثبيت تواجدها العسكري هناك؛ لتكون نقطة انطلاق إلى العمق الأفريقي وحجر الأساس لحماية مصالحها؛ ولكن إضافة إلى ذلك تهتم روسيا بالموارد الليبية، خاصة بما يتوافر لديها من خبرة في قطاع الطاقة، الذي تذخر به ليبيا.

إذ فضلا عن الرغبة الروسية في محاولة استعادة بعض العقود بمليارات الدولارات، التي كانت قد أبرمتها مع “القذافي”؛ فهي تنظر إلى شرق ليبيا باعتباره منبعًا مُهما للنفط، من خلال 46.4 مليار برميل من احتياطي النفط المؤكد، الذي يُعد الأكبر في أفريقيا والعاشر عالميًا.

ثالثًا: التأكيد على التواجد عسكريًا في شرق ليبيا؛ فرغم نفي المسئولين الروس استهداف بناء قاعدة عسكرية في ليبيا؛ إلا أن منفذًا بحريًا على سواحل المتوسط، في شرق ليبيا، يُمثل أحد الأبعاد الاستراتيجية للتحركات الروسية، في منطقة المتوسط وشمال أفريقيا، من منظور مدى التأثير الممكن على جنوب أوروبا، ومدى ما تُتيحه ليبيا من فرص لوجستية واسعة، في هذه المنطقة الحساسة بالنسبة إلى أوروبا، والولايات المتحدة أيضًا.

ولعل وضع الملف الليبي، منذ عام 2015، تحت مسئولية نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، وهو الرجل المُكلف بمنطقة الشرق الأوسط في الدبلوماسية الروسية؛ يؤكد مدى الأهمية التي يوليها الكرملين لهذه  الدولة التي تطل سواحلها على أوروبا؛ والتي لا تبعد سوى 390 ميلًا بحريًا عن مالطا، و486 ميلًا بحريًا عن جزيرة لامبيدوزا الواقعة في أقصى جنوب إيطاليا.

مثلما تتعدد العوامل الدافعة إلى الاهتمام الروسي بالساحة الليبية؛ تتعدد أيضًا الإشكاليات التي تواجهها هناك.. تلك التي يأتي أهمها على النحو التالي:

أولًا: تداعيات التواجد الروسي في جنوب المتوسط؛ فإضافة إلى ما يُمثله تنامي النشاطات العسكرية الروسية في منطقة المتوسط، على محور طرطوس طبرق، من تهديدٍ وتحدٍ ضاغط بالنسبة إلى واشنطن وحلفائها من الأوروبيين؛ يأتي الحذر الغربي وتداعياته، من إمكانية تنامي الانخراط الروسي في الشرق الأوسط عمومًا، وفي شمال أفريقيا بوجه خاص، نتيجة تأثيرات الحرب على غزة، والتحشيد العسكري الغربي في منطقة المتوسط.

ولعل هذا الحذر؛ بل التخوف يتبدى واضحًا من خلال تصريحات المبعوث الأمريكي السابق إلى ليبيا جوناثان وينر، إلى وكالة “بلومبرغ” الأمريكية، في أوائل نوفمبر الماضي، التي أكد فيها على أن “الإدارة الأمريكية تأخذ التهديد الروسي على محمل الجد”؛ مُشيرًا إلى أن التواجد الروسي في ليبيا “يمنحها القدرة على التجسس على الاتحاد الأوروبي بأكمله”.

ثانيًا: تأثير ليبيا الجيواستراتيجي على جنوب أوروبا؛ حيث إن الحضور الروسي في ليبيا، يُكسبها نفوذًا كبيرًا على أوروبا عمومًا، وجنوب أوروبا بشكل خاص؛ من منظور أن الروس، عبر هذا الحضور، يمكن لهم التحكم في ملفين استراتيجيين بالنسبة للأوروبيين، ملف الطاقة وملف اللاجئين؛ بما يعني أن أي أزمة للاجئين تنبثق من ليبيا، يمكن أن تُعيد التوترات، وتُعزز من تصاعد اليمين المتشدد، وتزعزع استقرار الاتحاد الأوروبي.

ومن ثم، تُمثل تداعيات هذا الحضور الروسي، في الإطار العام للموقف الأوروبي من الحرب الروسية الأوكرانية، إحدى أهم الإشكاليات التي سوف تواجهها روسيا، نتيجة محاولاتها الدائمة في تأكيد حضورها في ليبيا.

ثالثًا: التصادم مع تأثيرات خطة بايدن “العشرية في ليبيا؛ إذ طرح الرئيس الأمريكي جو بايدن، على الكونغرس، مشروعا في شأن ليبيا يمتد لعقد كامل؛ وهو المشروع الذي وإن كان يركز على ليبيا، فإنه يستهدف ثماني دول، منها خمس دول في غرب أفريقيا (بنين، ساحل العاج، غانا، غينيا، وتوغو)، إضافة إلى موزمبيق وبابوا غينيا الجديدة.

وهنا، تبدو الإشكالية في أن خطة بايدن “العشرية”، تستهدف وقف التمدد الروسي، ومنع تحويل ليبيا إلى قاعدة انطلاق لموسكو، لتنفيذ مشروعها في التوغل إلى العمق الأفريقي؛ وفي الوقت نفسه، تستهدف الخطة سعي الولايات المتحدة إلى ضمان مكاسب ومصالح استراتيجية، لها ولحلفائها، في القارة الأفريقية.

أولوية استراتيجية

في هذا السياق، يُمكن القول بأنه بينما يُركز الغرب على الحرب في أوكرانيا، تبحث روسيا عن نقاط ضعفه في باقي العالم، في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بوجه خاص. وفي هذه الحرب، الأخرى، تبرز ليبيا بوصفها أرضا للفرص بالنسبة إلى صانع القرار الروسي، بما تعنيه من “أولوية استراتيجية” في إطار المواجهة مع الغرب.

وكما يبدو، تنظر روسيا إلى الملف الليبي على أنه أحد الملفات، التي يجب أن توليها اهتمامًا خاصًا، بسبب حجم المصالح السياسية والاقتصادية، والاستراتيجية أيضًا؛ تلك التي تسعى روسيا إلى حمايتها وتعزيزها في القارة الأفريقية، عبر البوابة الليبية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock