إذا كان اختلاف الرسم القرءاني للمصطلح الواحد باختلاف وروده في آيات التنزيل الحكيم، يعني اختلافًا دلاليًا تبعًا للسياق الوارد فيه المصطلح؛ بما يؤكد على مسألة “المؤشر الدلالي” للمصطلح القرءاني.. وإذا كان ما نُطلق عليه “المؤشر الدلالي” للمفهوم، هو الذي يُحدد الفارق بين الجانب “المادي العضوي”، وبين الجانب “المعنوي الوظيفي” للمصطلح القرءاني.. لذا، فإن من بين الأحرف الدالة، في هذا الإطار، يأتي حرف “التاء”، مؤشرا دلاليا.
فهذا الحرف، لا يُعبر فقط عن إحدى أهم الظواهر الدلالية في الرسم القرءاني؛ ولكن أيضا يأتي ليؤشر إلى اختلاف دلالة المصطلح باختلاف الرسم القرءاني لهذا الحرف؛ ففي حال رسمها مبسوطة “التاء المفتوحة”، تُعطي مؤشرًا دلاليًا على الجانب الوظيفي المعنوي؛ في حين إذا رُسمت موثوقة “التاء المربوطة”، فإنها تُعطي مؤشرا دلاليا على الجانب المادي العضوي.
في هذا الإطار، لنا أن نحاول المُقارنة بين اثنتين من الآيات الكريمات، ورد فيهما لفظ “نعم”، مُضافا إليه التاء المربوطة “ة” في إحداها، في حين ورد مُضافا إليه التاء المبسوطة “ت” في الأخرى، هذا رغم ورود الألفاظ نفسها في الآيتين.
الآية الأولى، هي قوله سبحانه: “أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ٭ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ” [النحل: 17-18]؛ وكما هو واضح، فقد وردت “نِعۡمَةَ ٱللَّهِ”، عبر إضافة التاء المربوطة إلى اللفظ “نعم”، التي ترد معه رسما قرءانيا، مؤشرا دلاليا على الجانب المادي العضوي لمصطلح “نِعۡمَةَ ٱللَّهِ”، بدليل السياق القرءاني للآية السابقة مباشرة [النحل: 17]، حيث إن التساؤل “أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ”، دال في هذا الإطار؛ تماما مثلما هي دلالة خاتمة الآية “إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ”.
أما الآية الأُخرى، فهي قوله تعالى: “وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَظَلُومٞ كَفَّارٞ” [إبراهيم: 34]؛ وكما هو واضح، فقد وردت “نِعۡمَتَ ٱللَّهِ”، عبر إضافة التاء المفتوحة، أو المبسوطة، إلى اللفظ “نعم”، التي ترد معه رسما قرءانيا، مؤشرا دلاليا على الجانب المعنوي الوظيفي لمصطلح “نِعۡمَتَ ٱللَّهِ”، بدليل مُفتتح الآية الكريمة “وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ” الذي يأتي دالًا في هذا الإطار؛ حيث إن “مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ” تدل على الجانب المعنوي لما يطلبه الإنسان من رب العالمين، ولذلك “وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ”؛ هذا، رغم أن الإنسان بطبعه “لَظَلُومٞ كَفَّارٞ”، أي يضع الأمور في غير نصابها.
ورد لفظ “بقية” في آيات التنزيل الحكيم، في “ثلاثة” مواضع؛ ورد في موضعين منها رسما قرءانيا بالتاء المربوطة “بَقِيَّةٞ”، في حين ورد في الموضع الثالث بالتاء المفتوحة “بَقِيَّتُ”.
وكما أكدنا من قبل، ونؤكد دائما، فإن ورود التاء المربوطة في المصطلح القرءاني، إنما هو دلالة على الجانب المادي العضوي للمصطلح؛ وهو ما يتبدى بوضوح في قوله سبحانه وتعالى: “وَقَالَ لَهُمۡ نَبِيُّهُمۡ إِنَّ ءَايَةَ مُلۡكِهِۦٓ أَن يَأۡتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَبَقِيَّةٞ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَٰرُونَ تَحۡمِلُهُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ” [البقرة: 248].
ولنا أن نُلاحظ أن السياق القرءاني في هذه الآية الكريمة، يؤشر إلى عديد من الجوانب المادية؛ بداية من “ٱلتَّابُوتُ” الذي “تَحۡمِلُهُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُۚ”، وصولا إلى ما في هذا “ٱلتَّابُوتُ” من “بَقِيَّةٞ ممَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَٰرُونَ”. فهذا “ٱلتَّابُوتُ”، فضلا عن كونه “ءَايَةَ” كما في مُفتتح الآية الكريمة؛ فقد ورد مُعرفا بـ”أل” التعريف، دلالة على إمكانية مُشاهدته عينيا، بدليل: “يَأۡتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ… تَحۡمِلُهُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُۚ”؛ تماما كما في قوله سبحانه، خطابا قرءانيا إلى النبي موسى عليه السلام: “إِذۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰٓ ٭ أَنِ ٱقۡذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقۡذِفِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ فَلۡيُلۡقِهِ ٱلۡيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأۡخُذۡهُ عَدُوّٞ لِّي وَعَدُوّٞ لَّهُۥۚ وَأَلۡقَيۡتُ عَلَيۡكَ مَحَبَّةٗ مِّنِّي وَلِتُصۡنَعَ عَلَىٰ عَيۡنِيٓ” [طه: 38-39].
ومن ثم، يتأكد لدينا أن ورود “بَقِيَّةٞ” رسمًا قرءانيًا بالتاء المربوطة، إنما يُمثل مؤشرًا دلاليًا على الجانب المادي للمصطلح القرءاني؛ إذ، إن الإتيان في الآية يُرد إلى “ٱلتَّابُوتُ”، أو هو منسوب إليه؛ وأن الحمل يُرد إلى “ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُۚ”، أو هو منسوب إليهم. وبالتالي، تأتي “بَقِيَّةٞ” للإشارة إلى “الأثر المادي” الباقي “مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَٰرُونَ”.. بما يؤكد أن “بَقِيَّةٞ” تدل على المعنى المُشتق من البقاء والاستبقاء، الذي هو بيد الله سبحانه وتعالى.
هذا المعنى للفظ “بَقِيَّةٞ”، يبدو أكثر وضوحًا في قوله عزَّ وجل: “فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡۗ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتۡرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجۡرِمِينَ” [هود: 116].
وقد ذهب مفسرون كثيرون إلى شرح المعنى، معنى “بَقِيَّةٞ”، من زاوية أن البقاء يكون للجزء الأنفع أو الأصلح من الأشياء؛ إلا أننا على نحو مُتشدد، بالضرورة، لا نرى مثلما يرى الكثيرون. إن الـ”بَقِيَّةٞ” في هذه الآية الكريمة ليست هي الشيء المتبقي، بل هي “جزء من البقاء نفسه”، أي “الخلود”؛ لأن البقاء المطلق لله جلَّ جلاله.
بهذا المعنى، فإن هؤلاء الذين يستثنيهم المولى عزَّ وجل، يستحقون ما كافئهم الله سبحانه به من “البقاء”، سواء بمعنى النجاة من الهلاك في بعض الحالات، أو بمعنى خلود الذكر في حالات أُخرى؛ إذ، إن هذه المكافأة الإلهية تجعل هؤلاء “أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ”، أي يبقى لهم ذكرهم “العضوي” منحة إلهية من الله سبحانه وتعالى؛ وهو ما يؤشر إلى دلالة ورود “بَقِيَّةٖ” رسمًا قرءانيًا بالتاء المربوطة. وبهذا المعنى، نرى أن المقصود من “أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ” في الآية “ذات بقاء”، أي البقية “الباقية”؛ وليس البقية “المتبقية” كما قال كثير من المفسرين.
أما في قوله عزَّ من قائل: “بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ” [هود: 86]؛ نُلاحظ ورود “بَقِيَّتُ” رسمًا قرءانيًا بالتاء المفتوحة، أو المبسوطة؛ فضلًا عن كونها وردت منسوبة إلى الله سبحانه وتعالى “بَقِيَّتُ ٱللَّهِ”؛ بما يؤكد على الجانب “الوظيفي” في المصطلح القرءاني “بَقِيَّتُ”، من حيث رسم حرف التاء بهذا الشكل. يؤكد ذلك، السياق القرءاني الذي وردت فيه الآية الكريمة، حيث يقول تعالى: “وَيَٰقَوۡمِ أَوۡفُواْ ٱلۡمِكۡيَالَ وَٱلۡمِيزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡيَآءَهُمۡ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ ٭ بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ” [هود: 85-86].
وكما يبدو، فقد أُضيفت “بَقِيَّتُ” إلى الله جلَّ جلاله “بَقِيَّتُ ٱللَّهِ”؛ بمعنى أن ما يبقى لكم عند الله من الطاعات هو “خَيۡرٞ لَّكُمۡ”؛ فهي إذن ليست دلالة مادية أو بشرية، بقدر ما هي دلالة “وظيفية”؛ كما في ورود االاصطلاح القرءاني “ٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّٰلِحَٰتُ”، دون تثبيت حرف “الألف” للدلالة على الجانب المعنوي الوظيفي؛ وذلك كما في قوله سبحانه: “ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِينَةُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّٰلِحَٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ أَمَلٗا” [الكهف: 46].. وكما في قوله تعالى: “وَيَزِيدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱهۡتَدَوۡاْ هُدٗىۗ وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّٰلِحَٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيۡرٞ مَّرَدًّا” [مريم: 76].
وللحديث بقية.