أخبرنا المولى عزَّ وجل، من خلال آيات التنزيل الحكيم، بأن هذا الخلق، خلق الكون بكل ما فيه، هو كلماته، كما في قوله عزَّ من قائل: “قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا” [الكهف: 109]؛ وأن كل من كلماته لها كيان مادي عضوي يحمل معه وظيفتها.. كما في قوله سبحانه: “أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ٭ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا” [نوح: 15-16]؛ وكما في قوله تعالى: “هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ” [يونس: 5].
فإذا كانت كلمات الله الكونية لها كيان مادي عضوي، يحمل معه وظيفتها، وأن ذلك “حقًا”، كما تؤكد الآية الكريمة “مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ”؛ فإن كلمات الله الموحاة، المطلوب منا تلاوتها وتدبرها ومحاولة التوصل إلى دلالاتها، كما في قوله سبحانه وتعالى: “وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا” [الكهف: 27].. هذه الكلمات الموحاة تحمل أيضا في كينونتها مادتها العضوية ووظيفتها المنوطة بها.
وإذا كان ما نُطلق عليه “المؤشر الدلالي” للمفهوم، هو الذي يُحدد الفارق بين الجانب “المادي العضوي”، وبين الجانب “المعنوي الوظيفي” للمصطلح القرءاني.. لذا، فإن من بين الأحرف الدالة، في هذا الإطار، يأتي حرف “التاء”، مؤشرا دلاليا.
فهذا الحرف، لا يُعبر فقط عن إحدى أهم الظواهر الدلالية في الرسم القرءاني؛ ولكن أيضا يأتي ليؤشر إلى اختلاف دلالة المصطلح باختلاف الرسم القرءاني لهذا الحرف؛ ففي حال رسمها مبسوطة “التاء المفتوحة”، تُعطي مؤشرًا دلاليًا على الجانب الوظيفي المعنوي؛ في حين إذا رُسمت موثوقة “التاء المربوطة”، فإنها تُعطي مؤشرًا دلاليًا على الجانب المادي العضوي.
وإضافة إلى الأمثلة السابقة، التي تناولنا فيها مصطلحات قرءانية يختلف فيها حرف التاء، من حيث الرسم القرءاني له، واختلاف هذا الرسم من موضع إلى آخر؛ يأتي مصطلحي “بَيِّنَةٖ” و”بَيِّنَتٖ”. وقد ورد لفظ “بينة” في تسعة عشر موضعا في آيات التنزيل الحكيم. وقد رُسِم حرف “التاء” فيها جميعًا “ة”، باستثناء موضع وحيد رُسِمت فيه التاء مبسوطة.
ولنا أن نؤكد على أن “البينة” تؤشر في جانبها المادي على “دليل قابل للإبصار والمُشاهدة”؛ في حين تؤشر في جانبها الوظيفي “بَيِّنَتٖ”، إلى “إثبات صحة وقوع حدث ما”؛ فإذا حصل اتهام شخص ما بالسرقة مثلا، فلابد من إقامة الحُجة عليه بـ”ٱلۡبَيِّنَةُ”، أي بالدليل المادي، الذي يؤدي وظيفيًا إثبات صحة الحدث.
لقد سمى الله سبحانه آيات التنزيل الحكيم “الآيات البينات”، وذلك كما في قوله عزَّ وجل: “وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَاتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا ٱئۡتِ بِقُرۡءَانٍ غَيۡرِ هَٰذَآ أَوۡ بَدِّلۡهُۚ قُلۡ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنۡ أُبَدِّلَهُۥ مِن تِلۡقَآيِٕ نَفۡسِيٓۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّۖ إِنِّيٓ أَخَافُ إِنۡ عَصَيۡتُ رَبِّي عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيمٖ” [يونس: 15]. بل، إن المولى تعالى أكد أن مجموع هذه “الآيات البينات” هي “حَقِّ”، كما في قوله عزَّ من قائل: “وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلۡحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمۡ هَٰذَا سِحۡرٞ مُّبِينٌ” [الأحقاف: 7].
فماذا عن مصطلحي “بَيِّنَةٖۗ” و”بَيِّنَتٖ”؟
لو تأملنا الدلالة القرءانية للمواضع التي ورد فيها مصطلح “بَيِّنَةٖۗ”، رسمًا قرءانيًا بالتاء المربوطة، نُلاحظ أنه يؤشر إلى “حقيقة ربانية”، أي مُعجزة وبرهان مادي عضوي؛ في حين أنه بوروده، مصطلحا قرءانيا، بالتاء المفتوحة “بَيِّنَتٖ”، فهو يؤشر على “بيان” أي ورد ليحمل دلالة وظيفية.
يقول سبحانه وتعالى: “قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ شُرَكَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ لَهُمۡ شِرۡكٞ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَمۡ ءَاتَيۡنَٰهُمۡ كِتَٰبٗا فَهُمۡ عَلَىٰ بَيِّنَتٖ مِّنۡهُۚ بَلۡ إِن يَعِدُ ٱلظَّٰلِمُونَ بَعۡضُهُم بَعۡضًا إِلَّا غُرُورًا” [فاطر: 40]. ومن الواضح، عبر التساؤل القرءاني “أَمۡ ءَاتَيۡنَٰهُمۡ كِتَٰبٗا فَهُمۡ عَلَىٰ بَيِّنَتٖ مِّنۡهُۚ”، أن حرف “التاء” المفتوحة في المصطلح القرءاني “بَيِّنَتٖ”، إنما يُمثل مؤشرًا دلاليًا على الجانب الوظيفي للمصطلح. هذا، فضلًا عن سياق الآية الكريمة الدال على مؤشرات الجانب الوظيفي، مثل الاستفهام “أَرَءَيۡتُمۡ” في مُفتتح الآية “أَرَءَيۡتُمۡ شُرَكَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ”؛ ومثل أمر التعجيز للتبيين “أَرُونِي”، الدال على التحدي الوظيفي “َأرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ”.
أما بقية المواضع التي ورد فيها مصطلح “بَيِّنَةٖۗ”، رسمًا قرءانيًا بالتاء المربوطة، وهي ثمانية عشر موضعًا؛ فقد وردت لتحمل مؤشرًا دلاليًا على الجانب العضوي للمصطلح.. وذلك كما في قوله سبحانه: “لَمۡ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ ٭ رَسُولٞ مِّنَ ٱللَّهِ يَتۡلُواْ صُحُفٗا مُّطَهَّرَةٗ ٭ فِيهَا كُتُبٞ قَيِّمَةٞ” [البينة: 1-3]؛ وكما في قوله تعالى: “وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ” [البينة: 4].
ولنا أن نُلاحظ، كيف وردت “ٱلۡبَيِّنَةُ” مُعرفة بـ”أل” التعريف في الآيتين؛ في الأولى، جاء تعريف “ٱلۡبَيِّنَةُ” بأنها “رَسُولٞ مِّنَ ٱللَّهِ يَتۡلُواْ صُحُفٗا مُّطَهَّرَةٗ”، وهي مصطلحات قرءانية ذات دلالات مادية عضوية واضحة؛ هذا، فضلًا عن مصطلح “قَيِّمَةٞ”، الذي ورد رسمًا قرءانيًا بالتاء المربوطة، كمؤشر دلالي على الجانب العضوي لـ”كُتُبٞ قَيِّمَةٞ”. أما في الآية الثانية، فقد جاء تعريف “ٱلۡبَيِّنَةُ” بأنها “ٱلۡكِتَٰبَ” الذي أُوتيَ لـ”ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ”.
هذه الدلالة المادية العضوية لمصطلح “بَيِّنَةٖۗ”، تتأكد بوضوح عبر السياق القرءاني في آيات الله البينات؛ كما في قوله سبحانه وتعالى: “وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ قَدۡ جَآءَتۡكُم بَيِّنَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡۖ هَٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمۡ ءَايَةٗۖ فَذَرُوهَا تَأۡكُلۡ فِيٓ أَرۡضِ ٱللَّهِۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓءٖ فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ” [الأعراف: 73]؛ وأيضا كما في قوله سبحانه: “وَإِلَىٰ مَدۡيَنَ أَخَاهُمۡ شُعَيۡبٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ قَدۡ جَآءَتۡكُم بَيِّنَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡۖ فَأَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ وَٱلۡمِيزَانَ وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡيَآءَهُمۡ وَلَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَٰحِهَاۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ” [الأعراف: 85]؛ وكذلك، كما في قوله تعالى: “وَقَالَ مُوسَىٰ يَٰفِرۡعَوۡنُ إِنِّي رَسُولٞ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٭ حَقِيقٌ عَلَىٰٓ أَن لَّآ أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ قَدۡ جِئۡتُكُم بِبَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ فَأَرۡسِلۡ مَعِيَ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ” [الأعراف: 104-105].
وللحديث بقية.