رؤى

الرسم القرءاني.. ودلالة “الياء” في التنزيل الحكيم

في الحديث السابق حول “الرسم القرءاني.. ودلالة أحرف اللسان العربي”، وصلنا إلى أن حرف “الياء” بوصفه مؤشرا دلاليا من حيث اختلاف الرسم القرءاني له – يأتي متنوعا بين زيادة الحرف في بعض المصطلحات القرءانية، بما لذلك من دلالة، وبين ثبوت الياء وحذفها من بعض آخر من المصطلحات، بما لذلك من دلالة أُخرى تختلف عن الأولى.

وكان المثال الذي حاولنا الاستشهاد به هناك، هو “وَرَآيِٕ”، الذي يختلف رسمًا قرءانيًا عن المصطلح “وَرَآءِ”؛ بما يؤكد الاختلاف الدلالي بين المصطلحين. وأكدنا أن ورود “وَرَآءِ” بالهمزة في آخر الكلمة، إنما يؤشر إلى أمور “حسية”، أي تحمل دلالات مادية عضوية؛ وهي الدلالات نفسها التي تتبدى في التعبير القرءاني “مِن وَرَآءِ حِجَابٖ”؛ وذلك في قوله عزَّ من قائل: “وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسۡـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزۡوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦٓ أَبَدًاۚ” [الأحزاب: 53]. إذ، إن الـ”حِجَابٖۚ”، هنا، يحمل دلالة مادية من حيث كونه “شيء حاجب الرؤية”.

أما عندما يكون الـ”حِجَابٖ” معنويا، وظيفيا، يأتي مصطلح “وَرَآيِٕ” رسمًا قرءانيًا بزيادة حرف “الياء”؛ كما في قوله عزَّ وجل: “وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ” [الشورى: 51]. إذ الحق سبحانه لا يُمكن أن يحجبه شيء، فهو خالق الأشياء. وبطبيعة الحال، الـ”حِجَابٖۚ”، هنا، ليس ماديًا؛ بل، معنوًيًا، لنفي الجهة والمكان عن الله تعالى.

ليس ذلك المثال هو المثال الوحيد، الذي يُمكن الاستشهاد به ضمن آيات الذكر الحكيم؛ فهناك أمثلة مُتعددة على الاختلاف الدلالي للمصطلح القرءاني، بين ورود حرف الياء في المصطلح، وبين عدم وروده فيه؛ بما يُعبر عنه من اختلاف بين الدلالة المادية العضوية، وبين الدلالة الوظيفية.

يقول سبحانه: “وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۗ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ” [آل عمران: 144].. ويقول تعالى: “وَمَا جَعَلۡنَا لِبَشَرٖ مِّن قَبۡلِكَ ٱلۡخُلۡدَۖ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ ٱلۡخَٰلِدُونَ” [الأنبياء: 34].

في هاتين الآيتين الكريمتين، نُلاحظ كيف أضيف حرف “الياء” في “أَفَإِيْن”، رسمًا قرءانيًا للدلالة على الجانب الوظيفي؛ حيث إن “أَفَإِيْن”، الذي يأتي في إطار الاستفهام والربط، يُرَد إلى “مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ” في الآية الأولى، وإلى “مِّتَّ” في الآية الثانية. وكما يبدو.. فإن “الموت” في الحالتين وفي الآيتين، لا يؤشر إلى الجانب المادي لـ”الجسد الفاني”، بقدر ما يؤشر إلى الجانب الوظيفي.

ففي الآية الأولى، يأتي التعبير القرءاني “ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ”، كإشارة إلى تغيير الحركة والاتجاه، أي “الرجوع عما كان عليه التوجه”؛ أما في الآية الثانية، يأتي التعبير القرءاني “فَهُمُ ٱلۡخَٰلِدُونَ”، كإشارة إلى “وظيفية الموت في نفي الخلد”.

إلا أن ما يوضح المسألة أكثر، هو الاختلاف الدلالي بين مجيء المصطلح القرءاني مع إضافة حرف “الياء” بوصفه مؤشرا دلاليا على الجانب الوظيفي للمصطلح، وعدم إضافة الحرف للدلالة على الجانب المادي العضوي للمصطلح.

يقول عزَّ وجل: “أَلَهُمۡ أَرۡجُلٞ يَمۡشُونَ بِهَآۖ أَمۡ لَهُمۡ أَيۡدٖ يَبۡطِشُونَ بِهَآۖ أَمۡ لَهُمۡ أَعۡيُنٞ يُبۡصِرُونَ بِهَآۖ أَمۡ لَهُمۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۗ قُلِ ٱدۡعُواْ شُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ” [الأعراف: 195]. وهنا، فإن “كِيدُونِ” وردت دون تثبيت حرف الياء، مؤشرا دلاليا على الجانب المادي العضوي للمصطلح؛ بدليل السياق القرءاني الوارد في الآية الكريمة “أَرۡجُلٞ.. أَيۡدٖ.. أَعۡيُنٞ.. ءَاذَانٞ..”، وهي كلها مصطلحات لها دلالات مادية عضوية. هذا، فضلا عن الأمر الإلهي “قُلِ ٱدۡعُواْ شُرَكَآءَكُمۡ”، حيث إن “شُرَكَآءَكُمۡ”، هنا، لا تحمل دلالة مادية فقط، ولكن عضوية أيضًا.

إلا أن “كِيدُونِي” ترد في موضع آخر، مع إضافة حرف الياء، بوصفه مؤشرا دلاليا على الجانب الوظيفي، وذلك في قوله عزَّ من قائل: “إِن نَّقُولُ إِلَّا ٱعۡتَرَىٰكَ بَعۡضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوٓءٖۗ قَالَ إِنِّيٓ أُشۡهِدُ ٱللَّهَ وَٱشۡهَدُوٓاْ أَنِّي بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ ٭ مِن دُونِهِۦۖ فَكِيدُونِي جَمِيعٗا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ” [هود: 54-55]. وهنا، فإن “كِيدُونِي” ترد مع تثبيت حرف الياء، للدلالة على الجانب الوظيفي والمعنوي، للمصطلح؛ إذ لنا أن نُلاحظ التعبير القرءاني الوارد على لسان نبي الله هود عليه السلام “إِنِّيٓ أُشۡهِدُ ٱللَّهَ وَٱشۡهَدُوٓاْ أَنِّي بَرِيٓءٞ”؛ فالشهادة، هنا، على البراءة “مِّمَّا تُشۡرِكُونَ ٭ مِن دُونِهِ”.. هي مسألة معنوية، وظيفية من المنظور الدلالي.

أضف إلى ذلك، بالنظر إلى المقارنة بين الآيتين الكريمتين، نجد في الأولى [الأعراف: 195]، حرف العطف “ثم” الدال على الترتيب مع التراخي في الزمن “ثُمَّ كِيدُونِ”، بما يعني وجود فترة زمنية بين “كِيدُونِ”، وبين “ٱدۡعُواْ شُرَكَآءَكُمۡ”.. في حين نجد في الثانية [هود: 55]، حرف العطف “الفاء” الدال على الترتيب مع التعقيب دون فترة زمنية، أو فاصل كبير من الزمن؛ إضافة إلى السببية التي يتضمنها حرف العطف “الفاء”، الذي يأتي ما بعده سببا لما قبله.

وهي مؤشرات على الاختلاف الدلالي بين “كِيدُونِ”، الذي يرد رسمًا قرءانيًا دون تثبيت حرف الياء، وبين “كِيدُونِي” الذي يجيء رسما قرءانيا مع تثبيت حرف الياء.

هذا الاختلاف الدلالي نفسه، الذي ينتج عن اختلاف الرسم القرءاني بين تثبيت الحرف وعدم تثبيته، يتضح أيضا في الاختلاف بين “تَسۡـَٔلۡنِ”، في قوله سبحانه: “قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ” [هود: 46].. وبين “تَسۡـَٔلۡنِي”، في قوله تعالى: “قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعۡتَنِي فَلَا تَسۡـَٔلۡنِي عَن شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرٗا” [الكهف: 70].

أيضا، في الاختلاف بين “أَخَّرۡتَنِ”، في قوله سبحانه: “وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ قَالَ ءَأَسۡجُدُ لِمَنۡ خَلَقۡتَ طِينٗا ٭ قَالَ أَرَءَيۡتَكَ هَٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمۡتَ عَلَيَّ لَئِنۡ أَخَّرۡتَنِ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَأَحۡتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٗا” [الإسراء: 61-62].. وبين “أَخَّرۡتَنِيٓ” في قوله تعالى: “وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ” [المنافقون: 10] كيف؟

للحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock