رؤى

المصطلح “القرءاني”.. ودلالة “التاء” المعنوية

تناولنا في حديثنا الأخير، حول “المصطلح القرءاني.. ودلالة التاء المادية”، كيف أن “المؤشر الدلالي” للمفهوم، هو الذي يُحدد الفارق بين الجانب “المادي العضوي”، وبين الجانب “المعنوي الوظيفي” للمصطلح القرءاني، مثلما هو الحال في مصطلح “يد”؛ فهو يحمل الجانب المادي العضوي كـ”ذراع”، وفي الوقت نفسه يحمل الجانب المعنوي الوظيفي، أي “المُنْتَج العملي” لليد.. وذلك، كما في قوله سبحانه: “أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا…” [الأعراف: 195].

وأكدنا، هناك، على أن الرسم القرءاني لحرف التاء الذي يرد رسمًا قرءانيًا على شكل التاء المربوطة “ة”، إنما يأتي للدلالة على الجانب المادي العضوي للمصطلح القرءاني، مثل مصطلح “قُرَّةِ” أو “نِعْمَةَ”.

بالنسبة إلى مصطلح “قُرَّةِ”، وكما في قوله تعالى: “فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” [السجدة: 17] فإن “قُرَّةِ أَعْيُنٍ”، عبر رسمها بالتاء المربوطة، قد أعطت مؤشرًا دلاليًا على أن “مَا أُخْفِيَ لَهُمْ”، من نعيم الجنة، قد تآلفت عناصره التكوينية، وصار موجودًا وليس مجرد رجاء؛ بل هو شيء “مستقر”، رغم كونه مخفيًا عن الأنفس.

وهو ما ينطبق على مصطلح “نِعْمَةَ”، الذي يَرِد فيه لفظ “نعم” مُضافًا إليه حرف التاء المربوطة “ة”، التي ترد معه، رسمًا قرءانيًا، للدلالة على الجانب المادي العضوي للنعم الإلهية، “نِعْمَةَ اللَّهِ” أو “نِعْمَةَ رَبِّكُمْ”؛ كما في قوله سبحانه: “يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا” [الأحزاب: 9]؛ وأيضًا، كما في قوله تعالى: “وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ٭ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحنَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ” [الزخرف: 12-13].

أما في حال ورود حرف “التاء”، المُضاف إلى الفعل “قرَّ”، عبر رسمه على شكل “التاء المفتوحة”، فهو يُعطي مؤشرًا دلاليًا على الجانب الوظيفي المعنوي؛ وذلك كما في قوله سبحانه: “وَقَالَتْ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ” [القصص: 9]. فمن حيث إن “التاء” المُضافة إلى الفعل “قرَّ”، قد رُسِمت مفتوحة، فإن قول “امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ” عن موسى عليه السلام “قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ”، إنما يُشير إلى رجاء مستقبلي منتظر لما بعد فترة زمنية “مفتوحة”؛ ولذلك، قالت “عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا”، بما يؤكد على أنها كانت ترجو أن يكون موسى سببًا في “الاستقرار” المستقبلي.

كما في الفعل “قرَّ”، الذي تختلف دلالته باختلاف رسم التاء التي تأتي مُضافة إليه، ما بين التاء المربوطة “ة”، وبين التاء المفتوحة “ت”؛ فإن لفظ “نعم” تختلف دلالته، أيضًا، باختلاف رسم حرف التاء التي ترد معه. ومن حيث إن لفظ “نعم” يُشير إلى الرفاه وطيب العيش والصلاح؛ فإن “نعم” تتعلق بـ”الأرزاق” (النعمة: المنة)، التي يَمِنُ بها الرزاق الكريم على عباده من الناس. وكما أن الأرزاق تشمل الجوانب المادية العضوية، فهي تتضمن، كذلك، الجوانب المعنوية الوظيفية.

هنا، نلتقي بقوله سبحانه وتعالى: “ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ” [المائدة: 3]؛ حيث ترد “نِعۡمَتِ” رسمًا قرءانيًا من خلال التاء المفتوحة، لتُعطي مؤشرًا دلاليًا على الجانب الوظيفي المعنوي للمصطلح. فإضافة إلى إكمال الدين “أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ”، والرضاء الإلهي بالإسلام دينًا “وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ”، يأتي تمام النعمة الإلهية “وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي”؛ حيث يؤكد سياق الآية الكريمة على الجوانب المعنوية الوظيفية، للمصطلحات القرءانية “ٱلۡيَوۡمَ… دِينَكُمۡ… نِعۡمَتِي… ٱلۡإِسۡلَٰمَ”؛ حتى إن خاتمة الآية الكريمة “فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ” [المائدة: 3]، تأتي للدلالة على ذلك.

وليست هذه الآية الكريمة هي الموضع الوحيد، الذي يأتي فيه لفظ “نعم” مُضافًا إليه التاء المفتوحة “ت”؛ بل، في آيات التنزيل الحكيم مواضع كثيرة ورد فيها مصطلح “نِعۡمَتَ”، كما في قوله سبحانه: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ هَمَّ قَوۡمٌ أَن يَبۡسُطُوٓاْ إِلَيۡكُمۡ أَيۡدِيَهُمۡ فَكَفَّ أَيۡدِيَهُمۡ عَنكُمۡۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ” [المائدة: 11]. إذ هنا يتبدى أن سياق الآية الكريمة يؤشر إلى الجانب المعنوي الوظيفي للفظ “نِعۡمَتَ”. فحين “هَمَّ قَوۡمٌ” بالقتال والهجوم عليكم، على “ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ”، تدخلت القدرة الإلهية لحمايتكم “فَكَفَّ أَيۡدِيَهُمۡ عَنكُمۡۖ”؛ بما يؤشر إلى الجانب المعنوي الوظيفي لـ”مؤازرة الله” عزَّ وجل، بقدرته سبحانه، لـ”ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ”؛ وبالتالي، فهي “نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ”، ولذلك “وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ”.

آية كريمة أخرى، يأتي فيها لفظ “نعم” مُضافًا إليه التاء المفتوحة “ت”، للدلالة على الجانب المعنوي الوظيفي للمصطلح؛ هي قوله تعالى: “أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱلۡفُلۡكَ تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِنِعۡمَتِ ٱللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنۡ ءَايَٰتِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ” [لقمان: 31]. وهنا لنا أن نلاحظ كيف أن مُفتتح الآية “أَلَمۡ تَرَ” بما يعني أن الرؤيا المطلوبة في هذه الآية هي تأمل، وتدبر، القوانين والسُنن الإلهية التي تجعل “ٱلۡفُلۡكَ تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ”، وأن هذه القوانين والسُنن، معنويًا ووظيفيًا، هي “نِعۡمَتَ ٱللَّهِ”؛ ومن ثم، لنا أن نتأمل ورود “لام” السببية، أو التعليل، التي يكون ما قبلها سببًا لما بعدها، أو أن يكون ما بعدها نتيجة لما قبلها؛ وذلك في التعبير القرءاني “لِيُرِيَكُم مِّنۡ ءَايَٰتِهِۦٓۚ”؛ فكأن المطلوب هو تأمل، وتدبر، هذه الآيات، لأن “فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ”.

في هذا الإطار، لنا أن نحاول المُقارنة بين اثنتين من الآيات الكريمات، ورد فيهما لفظ “نعم”، مُضافًا إليه التاء المربوطة “ة” في إحداها، في حين ورد مُضافًا إليه التاء المبسوطة “ت” في الأخرى، هذا رغم ورود الألفاظ نفسها في الآيتين.

الآية الأولى، هي قوله سبحانه: “أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ٭ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ” [النحل: 17-18]؛ وكما هو واضح، فقد وردت “نِعۡمَةَ ٱللَّهِ”، عبر إضافة التاء المربوطة إلى اللفظ “نعم”، التي ترد معه رسمًا قرءانيًا، كمؤشر دلالي على الجانب المادي العضوي لمصطلح “نِعۡمَةَ ٱللَّهِ”، بدليل السياق القرءاني للآية السابقة مباشرة [النحل: 17]، حيث إن التساؤل “أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ”، دال في هذا الإطار؛ تمامًا مثلما هي دلالة خاتمة الآية “إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ”.

أما الآية الأُخرى، فهي قوله تعالى: “وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَظَلُومٞ كَفَّارٞ” [إبراهيم: 34]؛ وكما هو واضح، فقد وردت “نِعۡمَتَ ٱللَّهِ”، عبر إضافة التاء المفتوحة، أو المبسوطة، إلى اللفظ “نعم”، التي ترد معه رسمًا قرءانيًا، كمؤشر دلالي على الجانب المعنوي الوظيفي لمصطلح “نِعۡمَتَ ٱللَّهِ”، بدليل مُفتتح الآية الكريمة “وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ” الذي يأتي دالًا في هذا الإطار؛ حيث إن “مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ” تدل على الجانب المعنوي لما يطلبه الإنسان من رب العالمين، ولذلك “وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ”؛ هذا، رغم أن الإنسان بطبعه “لَظَلُومٞ كَفَّارٞ”، أي يضع الأمور في غير نصابها.

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock