بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عُمان
كتبت باستمرار وسأظل أكتب إن الإنجاز الأكبر للنهضة العمانية الحديثة والمعاصرة هو تحقيق الوحدة الوطنية الراسخة في الدولة الأقدم -بعد اليمن- في كامل شبه الجزيرة العربية.
نجح القائد السياسي العماني من السلطان الراحل قابوس -طيب الله ثراه- إلى جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- في وضع الهوية العمانية الرئيسية فوق -ما يسميه علماء السياسة والاجتماع -الهويات الفرعية المناطقية والمذهبية والقبلية.
عمليتان تاريخيتان هما عملية المصالحة الوطنية -التي باتت نموذج حالة ناجحا CaseStudy في مدارس العلوم السياسة بعد عام ١٩٧٥- وعملية الاندماج الوطني التي ساوت بين العمانيين في فرص العمل والتعليم والخدمات الأساسية، نجحت عمان الدولة العريقة عبرهما ومن خلالهما في تثبيت أركان وجودها باستيفائها شروط الحداثة والدولة الحديثة القائمة على المواطنة والهوية الجامعة.
هذه العملية كانت خطوة جبارة عندما تضعها وتقارنها بفشل ذريع لدول أخرى في العالم العربي في إنجازها في مرحلة ما بعد الاستقلال.
وعندما جاء طوفان الربيع العربي سعت القوى الغربية المهيمنة، وقوى عربية وإقليمية حليفة إلى استغلال هذا الفشل عبر تشجيع ونشر الطائفية والإرهاب الأسود في المنطقة بغرض تحويل هذا الفشل إلى هدم شبه تام للدولة الوطنية العربية في خمسة أوطان أعضاء في الجامعة العربية.
علينا دوما أن نتذكر كيف كان الخضوع العربي للإرادة الأمريكية في تجنيد وإرسال مواطنيها للحرب في أفغانستان لمقاومة الشيوعية والذين عرفهم وقتها الإعلام الغربي «بالمجاهدين»!! كانت الانطلاقة الأكثر سوادا لظاهرة الإرهاب سواء من حيث نطاق إجرامه باتخاذه طابع الظاهرة العالمية أو من حيث درجة توحشه باختفاء كل حدود وقيود استباحة الدماء والأوطان والأعراض.
نجحت عمان في مهمتي المصالحة والاندماج ركنا الوحدة الوطنية جاعلة إنجاز النهضة في توحيد البلاد والعباد إنجازا غير قابل للرجوع عنه في يوم من الأيام. ولكنها بفضل هذا الإنجاز أيضا نجحت في أن تكون الدولة العربية الوحيدة في خلق مناعة مكنتها من النجاة من موجة الإرهاب التي ضربت ولا تزال تضرب المنطقة منذ ٤٥ عاما.
مكنها أن تكون الدولة العربية الوحيدة المسجلة في تصنيف الأمن الدولي بأنها «صفر إرهاب» والبلد الأكثر استقرارا في عموم الشرق الأوسط.
لوضع الاستقرار والتوحد الوطني خلف قيادة البلاد وخلف هوية واحدة يقولها الجميع من مسندم إلى محافظة ظفار ومن الساحل للداخل هي «أنا عماني».
نشأ حساد ومبغضون في المنطقة والعالم، والحسد والبغض هو بداية التفكير في الأذى. هذا الاحتمال يجب أن لا يستبعد عندما نحلل الحدث الجلل ولكن الطارئ الذي واجهته سلطنة عمان الأسبوع الماضي في منطقة الوادي الكبير.
لا نستبق التحريات وجمع المعلومات وتحليلها الذي تعكف عليه الجهات المختصة التي تلقت إشادة حاسمة من المجتمع الدولي لكفاءتها في التعامل مع حدث نادر وغير متوقع، فلم تأخذها المفاجأة وسيطرت على الوضع في زمن قياسي.
كإعلامي وكاتب اهتمّ على مدى ٣٨ عاما بتنظيمات التطرف في المنطقة أرى أنه من الخطأ استبعاد الإطار الجيوسياسي المركب ومواقف السياسة الخارجية العمانية المستقيمة في فهم ما حدث من اعتناق ٣ إخوة من عمان «للأفكار الضالة» ومخالفتهم الطبيعة المتسامحة للشخصية الوطنية العمانية.
للنجاح في أي منطقة من العالم ثمن كما للفشل تماما. وهؤلاء يتجمعون معا ويسمون عادة حزب أعداء النجاح، ومن يخفق فيما استطعت أنت إنجازه قد يكرس جهوده لا لمعاودة المحاولة بل لتحطيم نجاحك. العالم ليس مثاليا ونهوض الأوطان ليس نزهة، ومد البصر في الجذور والأسباب لمنع تكرار ما حدث لا يجب أبدا أن يقتصر جغرافيا على بلد المسجد الذي شهد الحادث الإرهابي بل إلى ما هو أبعد من ذلك. بعبارة أوضح ربما عليه أن يضع كل الاحتمالات بما في ذلك تفاعلات الإقليم الصراعية وتأثيرات طموحات فائقة للعب أدوار لبعض دولها، دراسة لا تتنكر لمنهج يرى احتمالا قائما في أن «وراء الأكمة ما وراءها» أي أن بعض الأقوال والأعمال ربما تخفي نوايا ومقاصد أخرى.
علينا أن لا ننسى السياق التاريخي لجزء مهم من ظاهرة الإرهاب الذي لخّصته اعترافات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن مسؤولية أمريكا عن إطلاق داعش في العراق وليبيا واعترافات مسؤول عربي كبير سابق ترك منصبه بعد الربيع العربي بقليل عن أن دول الأطلسي نسقت مع دول في المنطقة لإدخال الإرهابيين عبر الحدود -العربية وغير العربية- المجاورة لسوريا.
سأتحدث عن مواقف السياسة الخارجية العمانية كاحتمال لابد من دراسته بجدية كدافع محتمل من دوافع استمالة بعض الحائرين والتائهين للأفكار التكفيرية الطائفية الضالة التي تتمدد للأسف في زوايا مظلمة لمنتديات الثقب الأسود في شبكة الإنترنت العنكبوتية.
وسأكتفي هنا بالحديث عن مواقف السياسة الخارجية العمانية في العقد ونصف العقد الأخير. فبعدما انجلى الغبار الكثيف لأخطاء النظم السياسية العربية في بناء الوحدة الوطنية أو لعملية التدخل والتنسيق الأطلسي مع أطراف إقليمية في عدد من الدول العربية ليكشف عن مشهد حرب أهلية وعملية تفكيك فعلي للدولة الوطنية.. بدت عُمان في موقف متميز للعب دور إقليمي أكبر. دور إيجابي مثبط أو مخفف لحدة النزاعات وعدم الاستقرار في النظام العربي بل والنظام الإقليمي للشرق الأوسط.
فعُمان لم تتورط في التدخل في أي نزاع أو شأن داخلي لأي دولة بالإقليم وهي لم تتورط في الاستنجاد بالأطلسي ولا الأجنبي عموما للدخول في هذه النزاعات بعد ٢٠١١ كما فعلت دول بل وتيارات سياسية كبيرة زعمت تاريخيا أن رسالتها هي مقاومة الغرب.
من مفاوضات إعادة سوريا إلى الجامعة العربية إلى مفاوضات الاتفاق النووي بين إيران وأمريكا عام ٢٠١٥ لمفاوضات إنهاء الحرب الإقليمية والأهلية في اليمن ومحادثات السعوديين والإيرانيين لتطبيع العلاقات الذي وقع في بكين مارس ٢٠٢٣ وحتى محادثات الأمريكيين والإيرانيين لمنع اتساع نطاق حرب غزة لتفجير الشرق الأوسط كله، كانت عُمان وعاصمتها مسقط اللاعب الدبلوماسي المفضل للجميع.
هذا الدور الذي لم يشتر بالمال ولا بعقود السلاح المبالغ فيها لإرضاء الغرب وإنما بثبات الموقف السياسي واستيعابه لحقيقة أن مصالح عُمان وأمنها يتحقق فقط في بيئة الاستقرار الإقليمي وتراجع خطر النزاعات في الخليج وشبه الجزيرة وفي كامل الإقليم.
هذا الدور المعتدل الذي يتزايد الطلب السياسي الدولي والإقليمي عليه وموقف مسقط المبدئي في حرب طوفان الأقصى الداعم للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة بما في ذلك حقه في المقاومة والرافض لتطبيع لا تقابله إقامة الدولة الفلسطينية طبقا لمبادرة قمة بيروت العربية ٢٠٠٢.. هي أدوار ومواقف لا يجب أن يكون التحليل السياسي ساذجا ويتصور أنها لم تتعارض مع طموحات أدوار لدى البعض أو مثلت إحراجا له أمام مجتمعه.. كما يتضح في حالة غزة الراهنة. يستطيع المرء أن يتوقع أن الدولة العمانية في فحصها الجاد للحادثة لن تكتفي بالفحص الأمني ولا بالسياق المحلي على ضرورتهما ولكن ستتسع لآفاق فكرية وسياسية واستراتيجية وتستخلص الدروس وتتخذ الإجراءات وتدعم أو تنشئ من البُنى ما يجهض أي حادث مماثل. لكن ما يبدو هذا المقال متأكدا منه هو أن عُمان ستنتصر على إرهاب غريب على أبنائها وليس له جذور في تربتها الوطنية.