رغم ما بدا عليه من تدخل أجنبي مصحوب بصراعات داخلية، خلال عقود ثلاثة مضت؛ إلا أن السعي العراقي إلى اعتماد نهج دقيق في التعامل مع الصراعات الإقليمية، عبر مبادرات الوساطة، قد حقق نجاحا واضحا، خاصة في المُصالحة السعودية الإيرانية، التي توسطت فيها الصين في الخطوة الأخيرة، بعد الجهود التي بذلتها بغداد. واليوم، يُعاود العراق المحاولة بالتوسط في المُصالحة بين أنقرة ودمشق.
وقد أُعلن عن جهود بغداد في محاولة إنهاء القطيعة السياسية بين الجانبين، من خلال الحوار الذي أجراه رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، مع قناة “خبر ترك” التركية، مطلع شهر يونيو الماضي؛ حيث أكد أن بغداد “ترعى أجواء إيجابية بين البلدين”.
تستند المحاولة العراقية في الوساطة الإقليمية، بين الطرفين الجارين للعراق، تركيا وسوريا، إلى عدد من العوامل.. أهمها ما يلي:
(1) تعزيز مكانة العراق كوسيط إقليمي: إذ تُدرك حكومة السوداني أهمية النجاح في تحقيق هذه الوساطة، باعتبارها مسعى إقليمي يُسهم في تخفيف الضغوط الداخلية، من جانب بعض القيادات الشيعية المنضوية ضمن “الإطار التنسيقي”. وهي الضغوط التي قد يتعرض لها السوداني تحديدا، نتيجة استهداف تلك القيادات منافسته على منصب رئيس الوزراء في المرحلة المُقبلة.
أضف إلى ذلك، توجه العراق إلى تعزيز مكانته كوسيط إقليمي، في ظل ما يتمتع به من ميزة العلاقات التاريخية مع كل من سوريا وتركيا، وفي إطار أنه جار لكل منهما، فضلا عن أنه ليس معزولا عن الآثار السلبية للأزمة السورية؛ ما يُتيح له موقعا متميزا في الوساطة.
(2) التوافق مع الدور الإيراني في سوريا: فكما يبدو، فإن دعم قوى الإطار التنسيقي للسوداني في مبادرة الوساطة، وانخراط رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، في إطار الوساطة، يُعبران عن الدعم الإيراني للوساطة العراقية والاهتمام بها؛ من منظور أن ما لم يتحقق لإيران عبر مسار “آستانة” قد يتحقق عبر الوساطة العراقية.
ففي مرحلة ما بعد رئيسي وعبد اللهيان، ومحاولة إيران إعادة ترتيب أوراقها الإقليمية، في سياق تداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة؛ يبدو تصور طهران في تعزيز التنسيق المشترك بين أنقرة وبغداد ودمشق، ولكن مع “تهذيب” السلوك التركي؛ بمعنى عدم زيادة النفوذ التركي في العراق أو في سوريا، اعتمادا على مُعالجة المخاوف الأمنية التركية عبر سُلطتي بغداد ودمشق.
(3) تحسين التبادل التجاري بين بغداد وأنقرة: حيث إن العجز الذي يُشير إليه تقرير صادر عن “المركز العالمي للدراسات التنموية”، ومقره العاصمة البريطانية لندن، ونُشر في 30 أغسطس الماضي 2023، هو ما يضغط على حكومة محمد شياع السوداني، بضرورة إنجاز صفقة عودة استئناف تصدير النفط، ربما أكثر من تركيا.
ومن ثم، فمن مصلحة العراق، كما من مصلحة تركيا، إنجاز الاتفاق الخاص بإعادة استئناف تصدير النفط عبر تركيا، كخطوة في اتجاه تحسين حجم التبادل التجاري بينهما؛ لا سيما أن العراق يعمل على إنجاز “طريق التنمية”، الذي يربط بين البصرة جنوب البلاد والحدود مع تركيا شمالا. وبحسب التقرير نفسه، فمن المتوقع أن يصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى نحو 20 مليار دولار، خلال السنوات الخمس المُقبلة، بعد أن كان 15 مليار دولار مع نهاية عام 2022.
رغم تلك العوامل الدافعة لإنجاز وساطة عراقية بين أنقرة ودمشق، خاصة في ظل عدم رفض الطرفين لهذه الوساطة – تتبدى تحديات متعددة على طريق إنجازها.. أهمها ما يلي:
(1) التنافس الإقليمي على الساحة السورية: وربما يكون هذا هو أكثر التحديات، التي سوف تواجه المبادرة العراقية في الوساطة. إذ لا يمكن صرف النظر عن التنافس الروسي الإيراني الصيني، داخل الساحة السورية؛ حيث تتمتع روسيا وإيران بتواجد عسكري وأمني، فضلا عن المصالح الاقتصادية المتعددة داخل سوريا. أيضا الصين التي تُركز نفوذها على مشروعات البنية التحتية وإعادة الإعمار، فضلا عن منع مقاتلي “الإيغور” الذين يُقدر عددهم بنحو ستة آلاف عنصر، من العودة إليها.
(2) انعدام الثقة المتبادل بين تركيا وسوريا: إذ يبدو هذا التحدي أبرز التحديات التي تقف في سبيل تحقيق الوساطة العراقية؛ فالجانب السوري ما زال ينتقد طبيعة الدور التركي في الأزمة السورية، وتحديدا في ما يتعلق بالدعم الذي تقدمه أنقرة لقوى المعارضة، خاصة في إدلب. أما الجانب التركي، فما زال ينظر بنوع من الشك والخشية من سلوكيات “النظام السوري”، وهي مخاوف عبر عنها الرئيس التركي في أكثر من مناسبة.
هذا، إضافة إلى “الاشتراطات المتبادلة” بين الطرفين، أنقرة ودمشق؛ حيث تشترط دمشق أن تُبادر تركيا إلى سحب قواتها من شمال سوريا؛ في حين تطرح تركيا مسألة ضبط الحدود مع سوريا قبل التفكير بسحب القوات التركية. ولعل ذلك ما يجعل مهمة الوساطة العراقية أكثر صعوبة، خاصة أن محاولة بغداد تأتي بعد فشل محاولات الوساطة الروسية، التي لم تستطع الوصول إلى نتائج ملموسة على طريق المُصالحة بين الجانبين.
(3) إشكاليات ترحيل اللاجئين السوريين: فقد أصبحت قضية اللاجئين السوريين، والمطالبة بترحيلهم، إحدى القضايا الهامة داخل المجتمع التركي مؤخرا؛ وذلك نظرا للعبء الاقتصادي والتغير الديموغرافي الناتج عنها، فقد شهدت الأشهر الماضية تصاعدا في أعمال العنف المجتمعي داخل تركيا، والتي كانت نسبة كبيرة منها موجهة إلى اللاجئين السوريين تحديدا؛ حيث وصل عدد هؤلاء اللاجئين إلى أكثر من ثلاثة ملايين شخص، ممن يخضعون للحماية المؤقتة في تركيا، إضافة إلى حوالي مليوني سوري يحملون تصاريح إقامة.
وبالتالي، يُمكن فهم محاولات النظام التركي في الانفتاح على النظام السوري، كنوع من إيجاد حلول للإشكاليات الناتجة عن تواجد أكثر من خمسة ملايين سوري على الأراضي التركية، عبر ترحيلهم إلى سوريا؛ وهو ما يُمثل واحدة من التحديات أمام إنجاز مُصالحة تركية سورية.
في هذا السياق، يمكن القول بأن الوساطة العراقية في المُصالحة التركية السورية، وإن كانت تعتمد على كفاءة العراق في التوسط في النزاعات الإقليمية؛ وفي الوقت نفسه، على عدد من العوامل الدافعة لإيجاد أرضية مشتركة بين أنقرة ودمشق؛ لكن رغم ذلك، فإن تحقيق مثل هذه الأرضية، وإنجاز مثل تلك المصالحة برعاية عراقية، يواجه بعدد من التحديات. فإضافة إلى الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية، والتنافس في ما بينها على الساحة السورية، فإن ثمة مصالح متباينة بين تركيا وسوريا، يُمكن أن تحد من إيجابيات المحاولة العراقية. فهذه المصالح، لا تتوافق إلا بخصوص تطبيق بعض المساومات، كـ”مسارات مستقبلية”، لحدودهما المشتركة، لا سيما في جغرافية الشمال الغربي من سوريا.