رؤى

“أرنست بيفن”.. الاستعماري الذي أشعل انتفاضتين عربيتين

أغلب الظن أنَّ “أرنست بيفن” الذي شغل منصب وزير الدولة البريطاني للشئون الخارجية وشئون الكومنولث، وهو الاسم الذي كانت بريطانيا تطلقه على مستعمراتها –لم يتصور إطلاقا أنَّ اسمه سيرتبط في منطقتنا العربية بانتفاضتين شعبيتين إحداهما في مصر والأخرى في العراق.

كانت البداية في مصر، وتحديدا في شهر أكتوبر من عام ١٩٤٦، ذلك العام الذي وقفت فيه البلاد على “حافة الثورة” على حد تعبير الكاتب الراحل الدكتور لويس عوض.

ففي ذلك الشهر سافر رئيس الوزراء “إسماعيل صدقي” باشا إلى لندن برفقة وزير خارجيته “إبراهيم عبد الهادي” للتفاوض مع “بيفن” واستطاع الطرفان بالفعل التوصل إلى اتفاق كامل بعد ثمانية أيام من التفاوض وعُرف هذا الاتفاق باسم معاهدة “صدقي- بيفن”.

وبحلول التاسع من نوفمبر من نفس العام، بدأت صحف القاهرة في نشر نصوص المعاهدة، وهي النصوص التي أثارت غضب الشارع المصري؛ خاصَّة المادة الثانية من المعاهدة التي أشارت إلى عودة القوات البريطانية إلى مصر؛ في حال تعرضت الأخيرة لعدوان مسلح. والمادة الثالثة التي نصت على تكوين لجنة دفاع مشتركة من السلطات الحربية المختصة لدى الحكومتين، وأن يعاونها من ترى الحكومتان ضمه إليها من المندوبين.

إسماعيل صدقي باشا
إسماعيل صدقي باشا

أدرك الشارع المصري أنَّ حكومة صدقي استبدلت الاحتلال بالتحالف مع بريطانيا، وسرعان ما بدأ التحرك ضد المعاهدة؛ ففي ١٦ نوفمبر ١٩٤٦، عقد الطلبة مؤتمراً طلابياً حاشدا، وقرروا تأليف “الجبهــة الوطنيــة لطلبة وادي النيـل”، بهـدف تحقيــق الأهداف الوطنية المشروعة، ووضعوا ميثاقا لهذه الجبهة.

وبحلول الخامس والعشرين من نوفمبر عمت القاهرة مظاهرات حاشدة للعمال والطلبة، وتحولت شوارع القاهرة إلى ساحة حرب بمعنى الكلمة، حيث أقام المتظاهرون السواتر الترابية، واشتبكت معهم قوات الأمن وانفجرت قنبلة –محلية الصنع– في مبنى القيادة البريطانية.

وسرعان ما أدركت السلطات البريطانية، استحالة الاعتماد على حكومة صدقي المرفوضة شعبيا؛ لتنفيذ المعاهدة، وتحت وطأة الضغط الذي مارسه “بيفن” قدَّم “صدقي” استقالة حكومته في الثامن من ديسمبر من عام ١٩٤٦، لتسقط معها المعاهدة.

أمَّا في العراق وبعد نحو عامين، وتحديداً في مطلع عام ١٩٤٨، تردد اسم “بيفن” مجددا؛ حيث تسربت أخبار في تلك الفترة عن وصول وفد بريطاني إلى العراق للتفاوض مع حكومة رئيس وزراء العراق آنذاك “صالح جبر” التي كانت حكومته بمثابة نسخة أخرى من حكومة “صدقي” في مصر، حيث جاءت مصحوبة برفض شعبي.. وسرعان ما أغلقت حكومة “جبر” الصحف، وسعت لقمع كافَّة القوى المعارضة للسياسة البريطانية في العراق.

استيقظ العراقيون في السادس من يناير عام ١٩٤٨، على تصريحات “فاضل الجمالي” عضو الوفد العراقي المفاوض في لندن التي أشار فيها إلى أنَّ الحكومة على وشك أن توقِّع معاهدة جديدة مع الحكومة البريطانية.

قُوبلت هذه التصريحات برفض من كافَّة الاحزاب والقوى السياسية في العراق مثل: الحزب الشيوعي العراقي، والحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الشعب، والحزب الديمقراطي الكردستاني. وسرعان ما دعت هذه الأحزاب للتظاهر والإضراب لرفض المعاهدة التي كانت مثل معاهدة “صدقي- بيفن” في مصر تشترط على العراق السماح للجيوش البريطانية بدخول أراضيه، كلما اشتبكت في حرب في المنطقة، وأن توفر الحكومة العراقية لهذه القوات كافَّة التسهيلات.

خرج طلبة الجامعة في مظاهرات صاخبة تستنكر سعي الحكومة لعقد المعاهدة الجديدة، وقُوبلت مظاهراتهم بقمع أمني عنيف.. وردا على هذا القمع أضرب طلاب الكليات والمعاهد العالية، وأسسوا -على غرار نظرائهم في مصر- لجنة “التعاون الطلابي” التي ضمَّت مختلف الاتجاهات السياسية والحزبية.

وسرعان ما امتدت التظاهرات من بغداد إلى مختلف المدن العراقية، كما يشير الكاتب “حامد الحمداني” في دراسة له عن هذه الانتفاضة التي عُرفت بالوثبة، والتي لم تقتصر على الطلبة، وإنَّما انضم إليها العمال والكادحين.

ورغم العنف الأمني الذي وصل إلى حد إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين الذين سقط منهم مئات الشهداء والجرحى إلا أنَّ هذا لم يثنهم عن مواصلة التظاهر ضد المعاهدة.

ومع تواصل التظاهرات وتصاعد الغضب الشعبي سارع الوصي على عرش العراق الأمير “عبد الإله” إلى دعوة أعضاء الحكومة، وعدد من رؤساء الوزارات السابقين، وممثلي الأحزاب السياسية الوطنية، إلى عقد اجتماع في قصر الرحاب في ٢١ يناير.

وفي محاولة لامتصاص الغضب الشعبي؛ أصدر الوصي عقب الاجتماع بياناً يعلن فيه التراجع عن عقد المعاهدة مع بريطانيا موكداً في بيانه أنَّه “إذا كان الشعب لا يريد هذه المعاهدة؛ فنحن لا نريدها أيضاً”.

حاول “صالح جبر” عبثا –بعد هذا البيان– أن يَمُدَّ في عمر حكومته، التي كان يدرك تماما أنَّ الشارع ينادي بسقوطها؛ باستخدام مزيد من القمع الذي بلغ ذروته في ٢٧ من يناير، حين تحولت شوارع بغداد الى ساحات كر وفر بين المتظاهرين وقوات الأمن، وكانت أعنف المواجهات على جسر المأمون حيث سقط ( ٤٠) شهيداً برصاص الأمن وجرح أكثر من (١٣٠) آخرين إلا أنَّ الجماهير أصرَّت على التقدم عبر الجسر؛ مجبرة قوات الأمن على التراجع.

وبحلول مساء ذلك اليوم أدرك الوصي على العرش؛ أنَّ القمع لم يُجْدِ مع المتظاهرين؛ فأوعز إلى “جبر” أن يقدم استقالته التي تم قبولها بمجرد أن قدمها، وهو ما عدَّه الشارع انتصاراً لإرادته.

في كلا البلدين: مصر والعراق.. استطاعت الجماهير بإرادتها وتضحياتها أن تُسقط مشروعاً استعماريا صاغه المدعو “بيفن” في عاصمة إمبراطوريته، وسعى لتنفيذه عبر وكلائه –أو قل عملائه– من الساسة العرب؛ إلا أنَّ الشارع العربي كان له رأي آخر، وكان له –أيضا– القول الفصل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock