عند قراءة آيات الخلق في قوله تعالى: “إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن طِينٖ ٭ فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ” [ص: 71-72]، وفي قوله سبحانه: “وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ ٭ فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ” [الحجر: 28-29]؛ قراءة مقارنة مع الآيات الواردة في سورة البقرة، بدءًا من قوله تعالى: “وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ” [البقرة: 30]، وصولًا إلى قوله: “وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ” [البقرة: 34] عبر هذه القراءة المقارنة، لنا أن نلاحظ أن لحظة جعل آدم خليفة، هي اللحظة التي استكملت تسويته فيها؛ بل هي اللحظة التي أصبح فيها البشر إنسانا، عبر النفخ الروحي فيه.
هكذا يميز القرءان بين النفس والروح. فإذا كانت الروح من أمر الله سبحانه وتعالى، فهي “سر الأنسنة”، أي سر تحول البشر إلى إنسان، ليجعله الله خليفة في الأرض. أما النفس فهي “أساس الحياة” أو قل: “سر الحياة”، وهي المكلفة بمهام الاستخلاف، استخلاف الإنسان في الأرض لأجل تعميرها.
خلق الإنسان
هنا يبدو التساؤل: لقد اقترن الخلق بالبشر كما اقترن بالإنسان؛ فما الفارق إذن؟
الملاحظ أنه عند لحظة “الخلق” والأمر الإلهي للملائكة بالسجود، لم تتساءل الملائكة عن عملية خلق البشر، أي عن المخلوق، أو عن أفعاله، مع ملاحظة أنهم امتثلوا لأمر الله في السجود؛ وذلك على عكس تساؤلهم بالنسبة إلى عملية “جعل آدم خليفة”. هذا فضلا عن “إبليس” الذي يُعلن عن استكباره في لحظة الاستخلاف وليس في مبتدأ الخلق البشري.
ولعل هذا ما يتأكد عبر قوله تعالى: “إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن طِينٖ ٭ فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ ٭ فَسَجَدَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ كُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ ٭ إِلَّآ إِبۡلِيسَ ٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ” [ص: 71-74].
وهنا لنا أن نلاحظ أن استكبار إبليس جاء بعد “التسوية” و”نفخة الروح” أي في اللحظة التي أصبح فيها آدم يختلف عن ما كانت عليه “البشرية” من قبله، وبالتحديد في اللحظة التي أصبح فيها آدم جاهزا ليكون “خليفة”.
بل إن الأمر يبدو بصورة واضحة عند تأمل الآيات التي ورد فيها “الجعل” مقترنا بالإنسان، وتكليفه بأن يكون خليفة في الأرض.
الإنسان والجعل
لعل نقطة الانطلاق في الإجابة عن التساؤل: لقد اقترن الخلق بالبشر كما اقترن بالإنسان؛ فما الفارق إذن؟ هي مسألة “الجعل”؛ من حيث كونها وردت مقترنة بالإنسان، ولم ترد مقترنة بالبشر إلا في آية واحدة، وفي معرض “النفي”.. نفي “الْخُلْدَ” عن البشر؛ كما في قوله سبحانه: “وَمَا جَعَلۡنَا لِبَشَرٖ مِّن قَبۡلِكَ ٱلۡخُلۡدَۖ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ ٱلۡخَٰلِدُونَ” [الأنبياء: 34].
أيضا تتبدى الإجابة في آية من آيات التنزيل الحكيم، ورد فيها الخلق مع الجعل، في حال الاقتران بالإنسان؛ نعني قوله تعالى: “إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا ٭ إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا” [الإنسان: 2-3]. وهنا يتضح كيف أن الله سبحانه وتعالى جعل الإنسان “سَمِيعًا بَصِيرًا”، وهي صفات لم يأت ذكرها مقترنة بـ”البشر”؛ وفي الوقت نفسه، فقد هدى الله سبحانه وتعالى “الْإِنسَانَ… السَّبِيلَ”، وترك له حرية الاختيار “إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا”؛ وهو تخيير لم تأت آيات الله البينات على ذكره بالنسبة إلى “البشر”.
أضف إلى ذلك ملاحظة هامة.. تتعلق بآيات الذكر الحكيم، التي وردت فيها مسألة خلق الإنسان والجان والبشر، معًا؛ نعني قوله سبحانه وتعالى: “وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ ٭ وَٱلۡجَآنَّ خَلَقۡنَٰهُ مِن قَبۡلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ ٭ وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ” [الحجر: 26-28]. هنا، يمكن ملاحظة أن “الْجَانَّ” قد خلقه الله سبحانه “مِنْ قَبْلُ”؛ وفي حال التساؤل عن “مِنْ قَبْلُ” مَنْ؟ تكون الإجابة، من خلال سياق الآيات، بمعنى “مِنْ قَبْلُ… الْإِنْسَانَ”.
إلا أن الملاحظة الأهم هنا، تتعلق بخلق كل من الإنسان والبشر.. حيث تؤكد الآيات أن خلق كل منهما كان من نفس المادة، أي “مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ”. وبالتالي، فإن “صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ”، هي المادة الأولى للحياة، أي المادة التي وضعت في شرعة ومنهاج “مسنون”، ولها قدرة على حماية نفسها بقوة ذاتية، على البقاء بالانقسام والتكاثر.
ملاحظة أخرى، في السياق ذاته.. ففي قوله سبحانه: “خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِن صَلۡصَٰلٖ كَٱلۡفَخَّارِ” [الرحمن: 14]؛ التبس على كثير من المفسرين الأمر، كما التبس عليهم في غيره. إذ، “الْفَخَّارِ” ليس المفخور بالنار، كما قالوا؛ بل “المتفاخر” في ذاته والمتميز على أشباهه. فتلك المادة الأولى للحياة، التي شحنها البارئ بقوة البقاء، هي خلاصة من مكونات الأرض “طين”، سُنت وفق منهاج معين “مسنون”، وحُميت ذاتيًا بقوة البقاء “حمأ”؛ ثم صارت فخارة على المادة التي جُبلت منها “فخار”. ومن ثم “صَلۡصَٰلٖ كَٱلۡفَخَّارِ” تؤشر، من حيث الدلالة، ومن حيث إن “الكاف” هو حرف تشبيه، إلى المادة الأولى للحياة، التي تتماثل وتتشابه مع الفخار الذي يتفاخر بذاته ويتميز على أشباهه.
ولنا أن نتأمل، تأكيدا على ذلك، اصطلاح “مُخْتَالٍ فَخُورٍ”، في قوله سبحانه وتعالى: “وَلَا تُصَعِّرۡ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٖ” [لقمان: 18]. إلا أن التنزيل الحكيم، وإن كان يؤكد لنا التشارك بين الإنسان والبشر في المادة الأولى للحياة، أي “صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ”؛ إلا أنه، في الوقت نفسه، يؤكد على مسألة أخرى خاصة بـ”التسوية” و”نفخة الروح”.
نفخة الروح
في سورة “ص”، يقول سبحانه: “إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن طِينٖ ٭ فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ ٭ فَسَجَدَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ كُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ ٭ إِلَّآ إِبۡلِيسَ ٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ” [ص: 71-74].
وفي سورة “الحجر”، يقول تعالى: “وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ ٭ وَٱلۡجَآنَّ خَلَقۡنَٰهُ مِن قَبۡلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ ٭ وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ ٭ فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ ٭ فَسَجَدَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ كُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ ٭ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰٓ أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّٰجِدِينَ” [الحجر: 26-31].
وعبر مقارنة آيات التنزيل الحكيم، لنا أن نلاحظ أن الخطاب عن “التسوية” وعن “نفخة الروح”، إنما هو خطاب مستقبلي يخص البشر.
فمن جهة، في حال الفعل الماضي “خَلَقْنَا”، نلاحظ قوله سبحانه: “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ… وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ…”؛ وهو يتضمن “تقديمًا” على ما أراد سبحانه وتعالى تبيانه وشرحه، عبر صيغة الحاضر والمستقبل: “إِنِّي خَالِقٌ” و”فَإِذَا سَوَّيْتُهُ”. وهنا، يمكن الاستنتاج بأن الملائكة لم تسجد للإنسان، ولكن سجدت لبشر سوّاه الله ونفخ الروح فيه.
من جهة أخرى، لم ترد التسوية ونفخة الروح إلا بخصوص البشر، ولم ترد بالنسبة إلى الإنسان.. وهنا، نكون أمام احتمالين: إما أن يكون الإنسان شيء، والبشر شيء آخر؛ وهو، كما يبدو، لغويًا وعقائديًا ودلالة، غير صحيح؛ من حيث إن مكونات كل منهما واحدة “صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ”.. ومن ثم، لا يكون لدينا سوى الاحتمال الآخر؛ أي أن يكون البشر مرحلة والأنسنة مرحلة أخرى.
بل، وأن تكون المرحلة التالية هي أكثر رقيًا من الأولى، عبر التسوية ونفخة الروح؛ بدليل عبارة “فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ” [ص: 73 & الحجر: 30]، التي وردت في السياقين، لتدل على أن البشر بعد التسوية ونفخة الروح، أصبح في مرحلة أخرى، ووضعية أخرى، مختلفة، عما كان عليه هؤلاء البشر من قبل.
بل، هذا ما يؤكد أن البشر والإنسان يتشاركان في مسألة الخلق، من حيث مكونات المادة الأولى للحياة؛ وأن اعتراض “إِبْلِيسَ” جاء على البشر الذي خلقه سبحانه “مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ”؛ كما جاء ذكره في قوله سبحانه وتعالى “قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ٭ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ” [الحجر: 32-33].
وللحديث بقية.